|
بعد أن عجزت قوى الغزو والعدوان، وفشلت في تحقيقِ أهدافها بالوصول إلى صنعاء، وانكسرت كُـلُّ محاولاتها في سنوات العدوان الأولى، دخلت جبهات نهم شرق صنعاء في نوع من الجمود المدروس، كانت حسابات قوى العدوان حينها أن يكونَ ذلك الجمود لصالح تنشيط جبهات الساحل الغربي للسيطرة على الحديدة من جهة، ومن جهة أُخرى، تم تفعيلُ الجبهات الحدودية الشمالية وزُجَّ بآلاف المرتزِقة هناك، انتهت محاولةُ الساحل الغربي المريرة على دولِ العدوان باتّفاق السويد المدعوم من مجلسِ الأمن قبل أكثر من عام، بينما استحالت حشودُ الحدود باتّجاه صعدة على مدى عامين، إلى هزيمةٍ نكراء في عملية نصر من الله الأولى والثانية، وسقوط الآلاف من أولئك المرتزِقة بين قتيل وجريح وأسير، لتنتهي معها أسوأ مغامرة للعدوان طوال السنوات الخمس الماضية.
وعلى وقعِ الهزيمة المدوية في كتاف، واستثمارا للهدوء الهشِّ في الساحل الغربي، واستغلالاً للمبادرة الرئاسية بعد ضربة أرامكو النوعية، أخذ العدوُّ بإعداد العدة، خلال الشهور الأربعة الماضية، وقام بتحشيد الألوية العسكرية من مجاميع المرتزِقة، وتزويدهم بالأسلحة المطلوبة، ووضع الخطط المحكمة، وغرف العمليات للتنسيق بين القوات على الأرض والغطاء الجوي الذي ترافق مع بدءِ الهجوم الواسع من ثلاثة محاور على مواقع قوات الجيش واللجان في نهم، ظنا منهم أن المجاهدين في حالةِ استرخاء وغفلة، وعدم جهوزية.
الاستعداداتُ الكبيرةُ لقوى العدوان بالعدد والعدة والمخطّطات، كانت مخصصةً للوصول إلى نقاط متقدّمة لتهديد صنعاء، أن لم يكن إسقاطها واحتلالها وإشاعة الفوضى فيها، إلّا أن جندَ الله كانوا أمامها كالبنيان المرصوص، لم تستطع تلك الجحافلُ التي تغنت بها قنواتُ العدوان في ساعات الهجوم الأولى، معلقة عليها آمالا كبيرة، معتبرة أن استكمالَ السيطرة على نهم سيكون معركة “صنعاء” الأخيرة، فخاضت معركتها بشراسة، بدءاً من فجر الجمعة، السابع عشر من الجاري.
وخلال أقل من 48 ساعة الأولى من المعارك، انقشع غبارُها عن جهوزية عالية للجيش واللجان الشعبيّة، التي حتما استفادت من التقارير الاستخباراتية عن نوايا العدو، ومخطّطاته وتفاصيلها، فاستخدمت تكتيكات عسكرية محكمة ومتناسبة، وبإدارة بارعة لأدوات المعركة وأسلحتها ووحداتها، فالمدفعيةُ الدقيقةُ وسلاح الهندسة وضد الدروع، قامت بدورها المنوط بها، ومن جهتها تناوبت القوةُ الصاروخية والطيران المسيّر على الأهداف الحساسة في عمق العدوّ السعودي، وأمّنت جميعها بطريقةٍ غير مباشرة الغطاءَ اللازم لتقدّم القوات على الأرض، ما مكنها من الإمساك بزمام المبادرة العسكرية، وإدارة المعارك وفقا لمخطّطات مرسومة بدقة، أدّت بمحصلتها لانكسارِ الهجوم، وتراجع قوات العدوّ ومرتزِقتها، وتحطم معنوياتهم، وما إن رأوا الأبطالَ المجاهدين ينقضون عليهم كالليوث، حتى دبَّ الرعبُ في قلوبهم، وخارت قواهم، وارتعشت فرائصُهم، ليستكمل الرجالُ الأشاوس تطهير المواقع، قبل التحوّل إلى الهجوم العكسي، والتقدم باتّجاه مركز محافظة الجوف ومأرب.
المحصلةُ الميدانية التي أعلن عنها العميدُ سريع فاقت توقعاتِ الأصدقاء قبل الأعداء، سواءً من حيث المساحة المحرّرة بما يقارب 2500 كم، أَو من حيث عدد الألوية العسكرية للعدو بإجمالي أكثرَ من 17 لواءً، سقطت بعدتها وعتادها وأصبحت غنائمَ بيد الجيش واللجان الشعبيّة بفضل الله، ليضيف هذا الإنجازُ حصونا جديدة لتأمين صنعاء من محاولات قوى العدوان ومرتزِقتهم، وتجعلها أكثر بعدا عن متناولهم، وتضاعف يأسُهم من أن تطالها حتى خيالاتهم، بعد خسارة جهد أربع سنوات تضيع في أيام معدودة، بالمقابل تضع مدينة مأرب في مرمى الجيش واللجان الشعبيّة، كما كان عليه الحال في العام 2015 عشية العدوان على اليمن.
اجتماعيا كشفت العمليةُ حالةَ الضيق التي يعيشها المواطنون تحت سيطرة قوى الغزو والارتزاق في مديريات مأرب والجوف، وتجلّى ذلك في حالة الاستقبال والحفاوة والأهازيج العفوية والتلقائية الأصدق في التعبيرِ عن الفرحة بوصول الجيش واللجان الشعبيّة إليهم، ورغبتهم بالانعتاقِ من الفساد والظلم والتهجير والمضايقات التي لحقت بهم لسنوات، فكانت مشاهدُ السجود لله شكرا التي رأيناها هناك، خيرُ تعبيرٍ عن رفض المجتمع اليمني في المديريات المحرّرة لحالة الارتزاق التي يمارسها طغمةٌ من ضعاف النفوس وميتي الضمير.
استراتيجيا كانت عملياتُ القوة الصاروخية وسلاج الجو المسيّر خلال عملية البنيان المرصوص، مهمةً جداً، من حيث عملت على إرساء وتثبيت معادلة ردع جديدة مع سلاج الجو السعودي، ونفّذت 15 عملية على مطارات ومواقع حيوية سعودية، منها تابعة لأرامكو، في جيزان وعسير، ساهمت هذه المعادلةُ في التخفيف النسبي من فاعلية الغطاء الجوي، لدرجة ظن عملاء العدوان أن قيادة العدوان في الرياض قد تركتهم أَو تخلّت عنهم، لا سيما مع توارد أنباء شبه مؤكّـدة عن غارات متكرّرة قصفت مجاميعَ من المرتزِقة أثناء عمليات الإسناد.
الجديرُ بالذكر هنا أن هذه الضربات تأتي رغم عدم إنهاء صنعاء للمبادرة المعلنة مع السعودية بإيقاف الضربات الصاروخية والمسيّرة، مقابل وقف غارات الطيران، فقد مثّلت هذه الضربات رسالةً باستعداد صنعاء لسحب المبادرة، وعودة الصواريخ إن تلتزم الرياض.
من جانبٍ آخرَ، هناك الكثيرُ من التفاصيل في عملية البنيان المرصوص، إلّا أنه من المهم الالتفات إلى عامل آخر من عوامل فشل الطيران الحربي في إسناد مرتزِقته في التصعيد الأخير، وهو تفعيل الدفاعات الجوية، ولا نستبعد أن عدمَ الإشارة إليها في بيان متحدّث القوات المسلحة كان مقصوداً.
وبعد كُـلِّ هذا، ها هي خمس سنوات من عمر العدوان تنقضي، مارس آذار القادم، راهنت السعوديةُ على المرتزِقة، وراهن المرتزِقةُ على السعودية، وها هم جميعاً يتجرعون مرارةً واحدة من أكبر الهزائم التي لحقت بهم الواحدة بعد الأُخرى طوال هذه السنوات، فهل يكتفي هؤلاء بخمس عجاف ويتركوا هذه الرهانات الخاسرة.
في السبت 01 فبراير-شباط 2020 09:54:32 م