|
بون شاسع بين الوحدة في الوجدان والوحدة على أرض الواقع، الوحدة كرأي وشعور وتصور وتخيل يمكن للفرد أو للجماعة الحُلم بأي مستوى من الوحدات أو التوحد، أما تحقيق الوحدة وديمومتها فيحتاج لأدوات وعوامل وأسباب ووسائل لابد من امتلاكها ، لتجاوز منطقة التخيل والانطلاق بجدية لامتلاكها والعمل على إبقائها في مأمن من أي انتكاسة .
لا حدود للحُلْمِ بالوحدة من الوحدة الوطنية أو العربية أو الإسلامية أو حتى وحدة العالم والكون وهو حلم كل إنسان سوي عبر عنه الإمام علي عليه السلام بصدق بقوله " الناس صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق" .
لكن المشكلة في نظري تكمن في تصور وسيلة تحقيق الوحدة السياسية وليس الإنسانية ، ولهذا وجدت الكثير من النماذج المتهورة والرومانسية أو غير الناضجة التي فرضت بالعنف في مراحل تاريخية اختلفت باختلاف عقليات وظروف القادة الذين رفعوا رايتها, ففي العنف تكمن المشكلة سواء في تحقيق الوحدة أو في الحفاظ عليها أو في الانفصال, حيث تتحمل المجتمعات تبعات تهور وطموحات بعض القادة وتداعياتها مما يستوجب على أهل الحكمة دائماً البحث عن حلول ؛
لقد قرأنا وشاهدنا مآلات النماذج المتهورة التي حصدت أرواح الملايين إرضاء لنزوات وغرائز بعض المرضى الذين وصلوا الى مواقع الزعامة والحكم ممن ليسوا أهلاً لها فملأوا التاريخ بالمآسي والحروب, بعضهم باسم القومية وبعضهم باسم العرق وآخر باسم العقيدة والخلاص أو باسم الانتماء الطبقي البروليتاريا والاشتراكية وآخرون باسم الحرية وحقوق الإنسان، طاحونة لا تنتهي من العقائد والأفكار والأوهام نتيجتها المزيد والمزيد من دوامة الموت والدمار؛
وبالتأكيد ليس كل من يقاتل فيَقتُل أويُقتَل سواء، ومعيار التفرقة هو العدوان أو الدفاع؛ فالعدوان جريمة والدفاع حق مشروع؛
لقد تلاشت واضمحلت دول وإمبراطوريات قامت على الدماء والدمار والحرائق وحروب العدوان؛
ومن نتائج تزييف الوعي بآلة الإعلام المضللة أوالبروبغندا المهيمنة عالمياً ما نراه ونشاهده من إرهاب وعنف ينسب إلى الإسلام يتولد عنه تراكمات ما يعرف اليوم في أوروبا بفوبيا الإسلام ، ولكنه عمل مكشوف عند من له دراية بالتاريخ ورغبة في المعرفة بقدر من الحياد!؛
إنها موجات عنف بعناوين وهُويات متعددة ومن الأمثلة ما شهده العالم من محاكمات وإرهاب متعدد الأوجه في العصور الوسطى باسم المسيحية ، وما ارتكب بحق الإنسان تنفيذا لما أسمي بقانون الإيمان المسيحي ، وما فعلته الدولة الأموية والعباسية والعثمانية باسم الإسلام ، وما اقترفه المسيحيون في الحروب الصليبية التي دامت مئتي عام, وما صنعته ألمانيا النازية بزعامة هتلر وفكره المريض من مجازر راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر في حربين عالميتين, وما نتج عن تجربة الاتحاد السوفيتي من مآسٍ ودماء باسم البحث عن المساواة, وما ارتكبته الولايات المتحدة من مجازر في فيتنام واليابان والصين وكوريا وترتكبه في حربها باسم محاربة الإرهاب في كل من العراق واليمن وأفغانستان وسوريا, وهي من صنعت الإرهاب وجندت الجماعات الإرهابية وتستخدمها بوسائل أكثر من وسائل القتل المباشر مكراً وتضليلاً وخداعاً ، وما يقوم به الكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين من مجازر منذ تأسيسه في 1948 بدعم بريطاني أمريكي، وما ارتكبته ميانمار وما تزال ضد مسلمي الروهنجا من قبل متعصبي البوذيين الذين كان الكثير من الناس يعتقدون استحالة أن يوجد بينهم من يؤمن بالعنف والإرهاب, وإذا بنا نشهد قسوة وإرهاب لا نضير له في التاريخ ضد الأطفال والنساء والأمراض والمدنيين العزّل وما يقوم به الهندوس بتواطؤ واضح من رئيس الحكومة الهندوسي المتطرف نار يندرا مودي ضد المسلمين .
والحديث عن هذه النماذج بمناسبة الحديث عن سعي الإنسان إلى التوحد بالقوة مهم بل في غاية الأهمية لأن أغلب المجازر والويلات والحروب قد ارتكبت تحت رايات أدعى أبطالها أنها في سبيل وحدة الوطن أو القومية أو العالم أو الفكر أو الهُوية أو التدخل في شئون الدول الأخرى غير الموالية لسياسة المتدخل باسم حماية حقوق الإنسان وفي الغالب أمريكا هي من يحمل هذا السلاح لتقتل به العالم وكلها عناوين خادعة.
الوحدة هدف نبيل وعلى من يدّعي السعي لتحقيقها، أن يستخدم أدوات نظيفة؛
وليس ببعيد عن هذا السياق ما تقوم به السعودية والإمارات بالوكالة عن أمريكا والصهيونية من محاولات لتمزيق اليمن حيث تستوي كما أشرنا الدعوة إلى الوحدة بالقوة أو محاولة التمزيق أو الانفصال بالعنف !!،
وكلما أتسع أفق الوحدة ومداها كلما اتسعت الإمكانات والجهود المطلوبة لتحقيقها بعيداً عن الصلف والادعاء والغرور ومحاولة تحويلها إلى منجز تاريخي ينسب لمن دفع الناس نحو الموت لتحقيقها أو دفاعاً عنها.
الغايات النبيلة لا بد أن تكون وسائل تحقيقها نبيلة وإلا فإن النتائج تتبع المقدمات، وللوعي المجتمعي التواق للوحدة دور رئيس في اختار اللحظة المناسبة لتحقيق طموحات المجتمع وإدارتها بما يحقق أهدافها المشروعة؛
والإحساس بالمسؤولية إلى جانب الوعي يساعد في اختيار اللحظة أو الفرصة التاريخية للوحدة السلمية أو في التراجع السلمي عنها لأن الوحدة وسيلة لتحقيق غاية ، أما القول بأنها غاية يجب أن تتحقق ولو بالقوة فليس سوى طريق الطغاة والحكام المستبدين نحو المآسي والحروب ، ولا يصحح مسار التأريخ المستمر في جنونه إلا حشد الطاقات الواعية والخلاقة لمواجهة الأخطاء بشجاعة وإيمان وعمق إنساني يدفع الناس إلى التوحد بإرادة حرة تدرك ويلات ما عانته البشرية ولا تزال من ظلم وقهر وتضليل .
من حقك أن تحلم ما شئت ولكن من واجبك أن تكون أدواتك نظيفة لتحقيق أحلامك!
إنها الوحدة عنوان البقاء وطريق الفوز والنصر المبين.
في الثلاثاء 03 مارس - آذار 2020 08:10:27 م