الموشحات اليمنية.. صوت يماني عتيق في زمن الحرب والوباء
الجبهة الثقافية
الجبهة الثقافية

الأكوع: الدول لا تُعرف بملياراتها وإنما بتراثها ونمتلك من الثقافة والتاريخ ما لا يمتلكه العالم
لم نستخدم الآلات الموسيقية وحصلنا على المركز الأول في مشاركات خارجية

يترافق الموشح اليمني منذ مئات السنين مع مناسبات اجتماعية ترتبط بمناسبات مختلفة كالعزاء والزواج، إذ تنظم المهرجانات الإنشادية وتتنافس المنابر الإعلامية على بث تلك التراتيل العذبة التي تصدح بها الأصوات الإبداعية ويهب لسماعها الكثير من الناس في أجواء مليئة بالروحانية تأخذك إلى عوالم من الدهشة الروحية وتغوص بك في أغوار التاريخ القديم المتجدد.


عبدالقادر عبدالله

تختلف الأنماط الإنشادية بين المناطق اليمنية، ففي صنعاء تتخذ نسيجا ابتهاليا وفي حضرموت تلتقي مع الأشكال الفلكلورية مثل الدان والعُدة، بينما امتدت الموشحات والأناشيد الصوفية من تهامة إلى مرتفعات المناطق الوسطى ومراكز التصوف في تعز، ومن بين ذلك يبدو الموشح الصنعاني أكثر تمسكاً بهويته التاريخية وأكثر تشبثاً في الحفاظ عليها، على عكس بقية المناطق التي سارت في ركب التطور إلى حدٍ ما.

صوت جديد


يجد الإعلامي والمنشد أسامة محمد الفرّان (25 سنة)، نفسه في منزلة العاشق للإنشاد الديني “والعاشق لا حدود لاهتمامه، ولا تفريط في هيامه؛ سيما والمراد هو إرضاء الله بشتى الوسائل، وتقديم رسالة مفعمة بالثقافة القرآنية”، كما يقول في حديثه لـ”الثورة”، ويضيف: “يلتقي الإنشاد والإعلام في نقطة مشتركة هي تقديم رسالة”، ورغم أنه يركّز على الجانب الإعلامي بشكل أكبر كمشروع عمل لكنه يرى أن الله وهبه “هواية تتيح لي ذكره، وذكر رسوله وآل بيته الأطهار _صلوات الله وسلامه عليهم بشكل شبه متواصل، وتخدم قضية شعبنا المؤمن، سائلاً الله دوام النعمة وارتقائها”.

بدايات
يقول بعض المؤرخين إن البدايات الأولى للموشح اليمني كانت قبل 800 – 1000عام، لكن رئيس جمعية المنشدين اليمنيين المنشد علي محسن الأكوع يرى “أن عمر الموشح اليمني يزيد عن 1400عام، وما استقبال المهاجرين والأنصار- وهم يمنيو الأصل- لرسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) هاتفين بنشيد “طلع البدر علينا” إلا دليل على أن لذلك النشيد امتداداً تاريخياً سابقاً”، ويقول أيضاً “من مميزات الموشحات اليمنية أن معظمها يبدأ بالتوسل الإلهي قبل الدخول في الغزل ويختمها بالصلاة على النبي وآله، ولذا لاقت انتشاراً كبيراً وتغنّى بها الفنانون في مختلف البلدان العربية”.

هوية لا تزول


ورغم ما عاناه اليمن من حروب خلال فترات الزمن المتعاقبة عبر الحملات العسكرية الأوروبية والبرتغالية والتركية وغيرها، وما نتج عنها من تأثير محدود كإدخال بعض الآلات الموسيقية على الموشحات اليمنية، إلا أن اليمنيين حافظوا على تراثهم اللا مادي المتميز بكل الوسائل الممكنة من خلال المداومة على ترديده في المناسبات، لذا ظل الموشح صادحاً يقاوم التغريب ويتفرّد بعذوبته عن كافة فنون المنطقة، يرافق اليمنيين في حلّهم وترحالهم، وفي مواسم الخير والبلاء.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر استوعب الإنشاد الديني اليمني أول ملامح تجديد حقيقية مع الصوفي جابر أحمد رزق (1905م)، حيث أدخل رزق الموسيقى وشكّل تواصلاً بين الغناء الصنعاني والتهامي، وبين الغناء الديني الزيدي والصوفي، وتمتع معه الغناء الديني بجرأة أكبر في كسر التقاليد مقارنة بالغناء الغزلي.
وعلى الرغم من ذلك احتفظ الموشح الصنعاني بطابعه الخاص بعيدا عن الآلات الموسيقية، حتى مع التطور الهائل الذي يشهده الفن، ما جعله يتجدد بطبيعته ليوائم كل عصر دون التأثير على جمال اللحن وفقدان الروحانية المرافقة لجوّه الموسيقى”، كما يقول الأكوع في حديثه لـ”الثورة”، ويردف: “أنشدنا في تركيا في الملتقى العربي الإسلامي للفن أو الإنشاد الديني، فقدّمنا الموشحات اليمنية وكانت الفرق الأخرى المشاركة في المهرجان تمتلك آلات موسيقية، بينما نحن لم نستخدم الموسيقى، واستطعنا أن نلفت نظر الجمهور وحصلنا على المركز الأول”.
ويلفت الأكوع إلى أن “الموشح الصنعاني قابل لإدخال الآلات الموسيقية، بيد أن ذلك سيشوهه، بحيث سيتساوى مع الغناء وسيفقد الطابع التراثي الذي ورثه من الآباء، ونحن نريد أن نحافظ عليه من أي إدخال موسيقي في الواقع”.

  

تراتيل روحية


بالنسبة للفرّان المتذوّق، فالموشحات – الصنعانية على وجه الخصوص – هي تراتيل روحية تأخذه إلى عوالم أخرى، حيث يقول “ما إن أسمعها حتى أحلِّق في أُفق مليئ بالأزقة التي توصلني إلى صفاء الذهن”، بينما ينظر إليها الفرّان كمنشد على أنها “من الألحان التي يصعب على غير المنشد اليمني أداؤها وإتقانها؛ لما لها من التنوع في الألحان الممزوجة بطابع صنعاء ورونقها، وهي تراث غزير يتراوح ما بين الفرح والمواساة؛ ففي الأفراح لها مذاقها الفرائحي، وفي الأحزان لها مذاقها الروحاني الشادّ إلى الله جل في علاه”.

معايير صارمة
خلال التحضير لإطلاق الموشح الجديد يعتمد المنشد على بعض المعايير الفنية والأدبية والدينية، فإلى جانب ضرورة ألا تكون خادشة لحياء المجتمع – كما هو الحال مع الكثير من الأغاني – يجب أن يكون اللحن مميزا ولافتا وقابلا للتجديد دون تأثر بالعوامل الفنية المختلفة، أما القصائد فلا تخرج عن طور العربية الفصحى والشعبية الحمينية، إلى جانب ذلك ثمة معايير لاختيار الموشح حسب كل مناسبة، كما يصف ذلك رئيس جمعية المنشدين اليمنيين، على الرغم من أن بعض القصائد تناسب كل المناسبات.

غياب ملحوظ
لقد اعتاد المنشدون اليمنيون إحياء عشرات الموالد (تظاهرات فنية دينية)، وإحياء ذكرى السيرة النبوية في كثير من ليالي شهر رمضان المبارك من كل عام، لكنها شهدت خفوتاً لافتا في الآونة الأخيرة نتيجة الحرب العدوانية التي تشنها السعودية والإمارات ومن خلفهما قوى الهيمنة والاستكبار العالمي على اليمن منذ 2015م “لكنّها هذا العام تبدو أكثر خفوتاً، مع انتشار وباء كورونا المستجد الذي ضرب العالم ووصل مؤخراً إلى اليمن”، كما يؤكد الأكوع، الذي أشار إلى أن حال الموشح اليوم ليس على ما يرام، ويحتاج إلى الاهتمام.
ويضيف الأكوع “هذا العام مع انتشار الوباء حرصت أجهزة الدولة على حث الناس على تجنب التجمعات، واتخذت إجراءات وقائية منها إغلاق القاعات والصالات.. إلخ، وهذا ما انعكس سلباً على الإنشاد الذي يعتبر المناسبات مسرحه الأول في ظل غياب المهرجانات الرسمية”.

اهتمام واسع
في اليمن، لا يقتصر اهتمام الناس على الموشحات في المهرجانات والأعراس والمآتم فقط، بل إن “هناك عادات توارثها اليمنيون في ليالي رمضان، تتمثل في ارتفاع أصوات التسابيح من مآذن المساجد، وهي تسابيح دينية ذات لحن شجي ومحصورة فقط على التراث اليمني، ولها معانٍ ثلاثة، فالتسبيحة الأولى تنبّه الناس لقراءة القرآن في وقت متأخر من الليل، والثانية لتنبيه ربات المنازل باقتراب موعد السحور ليقمن بتحضيره، أما الثالثة فبعدها مباشرة يكون السحور، يلي ذلك قراءة شق من القرآن ومن ثم الأذان وإقامة صلاة الفجر”، بحسب الأكوع.
ويقول أيضًا “اليمنيون يرددون الموشحات المندرجة ضمن باب التسبيح أثناء ذهاب الحجاج وعودتهم من بيت الله الحرام، كما أن هناك تسابيح تشبه تلك التي تسبق أذان الفجر تأتي لتنبّه الناس بالاستعداد لصلاة الجمعة”.

البرعي
من أبرز القصائد التي تغنى بها الكثير من المنشدين اليمنيين تلك القصائد التي تصف وتتغزَّل وتمدح رسول الله محمد (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله)، وحينما تحضر قصيدة المديح النبوي يحضر شاعر اليمن الكبير عبدالرحيم البرعي (803هـ) الذي يرى الأكوع أنه أبرز من كتب القصيدة التوسلية والمديح النبوي، إلى الحد الذي لا يضاهي شعره في هذا الجانب أحد، كما كان يحضر صوت رمضان من خلال الشيخ والمنشد محمد حسين عامر (1999م).
ويرى المنشد اليمني الأكوع أن هذا النوع من الفن بحاجة إلى اهتمام الجهات الرسمية، خاصة وزارات الثقافة والإعلام والأوقاف، كما يطالبها بدعم التراث والاهتمام به، فيقول “الدول لا تعرف بملياراتها ولا بنفطها، لكنها تعرف بتراثها وفنها وعراقتها وأصالتها وموشحاتها وغنائها، والعالم لا يمتلك ما تمتلكه اليمن من العراقة والأصالة والعروبة والحضارة والثقافة والتاريخ”، ويختم بالقول “تراثنا بدايته مجهولة ربما منذ أكثر من 800 أو 1400 عام، لكن ليس له نهاية”.


في الخميس 11 يونيو-حزيران 2020 07:51:32 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=2592