إسقاط تمثال جورج واشنطن وضرورات التغيير الإنساني في العالم بِرُمَّته
د.عبدالعزيز بن حبتور
د.عبدالعزيز بن حبتور

أَحْدَثَ قتل الشاب الأمريكي الأسود/ جورج فلويد، على يد شرطي أمريكي أبيض زلزالاً سياسيا واجتماعيا ودوليا صاعقا وعنيفا ولازال، حيث ترددت أصداؤه المدوية في جميع أرجاء الجهات الأربع لكرتنا الأرضية، هذه الحادثة المأساوية لقتل الشاب الأسود من أصولٍ أفريقيةٍ أظهرت للعالم كم هي جروح أمريكا العنصرية والأخلاقية لا زالت عميقةٌ حتى اليوم.

قاوم الشاب جورج فلويد وهو يُردد إنَّني (لا أستطيع أن أتنفس) قُرابة تسع دقائق حتى أسلم الروح لبارئها وهو يئنُّ تحت ركبة الرجل البوليسي الأبيض، لقد كشفت تلك الدقائق التسع زيف الادعاء بشعار الحلم الأمريكي الذي تهاوت وانهارت فكرته بسهولةٍ أمام الملايين من الشعب الأمريكي (البيض والسود) منهم على حدٍ سواء، وأمام مئات الملايين من المشاهدين على مستوى العالم.

كم هي ثمينة وغالية جداً تلك الدقائق التي شاهدها العالم التي لفظ فيها الشاب فلويد أنفاسه الأخيرة وهو يستنجد بالقانون وبالثقافة و (بالحضارة الغربية) حتى وصلت توسُلاته إلى أُمه الحبيبة، لكن مع ذلك لم يستطع أيُّ أحدٍ أنْ يُنقذه، هذه هي الصورة الحقيقية للنظام السياسي الأمريكي بأدواته المتوحشة ورمزها (الجندي) الأمريكي غليظ القلب، ألم يُشاهد العالم كيف جثم الجيش الأمريكي على رِقاب الشعب الياباني في الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ألم تُسجِّل الكاميرات القليلة وحشية النظام والجندي الأمريكي في فيتنام وكوريا وأفغانستان والصومال، ألم تتم إبادة جُزء من الشعب العراقي البطل في تسعينيات القرن العشرين من خلال العدوان المباشر والحصار والاحتلال للعراق العظيم، أتذكر هُنا مقالاً إعلامياً قرأته في تسعينيات القرن العشرين، حيث سأل أحد الصحفيين السيدة/ مادلين اولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في زمن الرئيس بيل كلنتون، قال لها الصحفي: إنَّ حصاركم الجائر على الشعب العراقي يُخلِّف الآلاف من الضحايا بشكلٍ مُستمرٍ وصل حينها مليون ونصف المليون طفل عراقي، هؤلاء ماتوا بسبب الحصار والتجويع الأمريكي، ردَّت عليهم الوزيرة بصلفها المعهود بالقول (أنَّ القضية تستحق الثمن)، نعم هذا هو جوهر النظام السياسي العنصري في أميركا، ولو عملنا (فاتورة حساب) بجرائم أمريكا في العديد من بلدان العالم لما انتهينا من كتابة هذا المقال مطلقاً، لكنها حكمة الله، في كل حقبةٍ زمنيةٍ تأتينا دولة استعمارية بيضاء ونُسجل ضحاياها دونما أنْ يُنفَّذ القانون الإنساني الدولي ضِدَّها، وهذه هي الفاتورة الأطول في العالم لجرائم الأمريكان.

علينا تأمُل حجم الألم الذي يعيشه المجتمع الغربي العنصري من ماضيه وماضي مُكَّونٍ هامٍ من مواطنيه، هذا الوجع يتجاوز في عُمقه الألم التاريخي مُنذ وصول (المستكشف) القرصان/ كريستوفر كولومبس إلى شواطئ أمريكا في أكتوبر 1492م، والتي لم تتعافى منه بعد حتى يومنا هذا بالرغم من مرور قرابة خمسة قرونٍ مُنذ (اكتشاف العالم الجديد)، لم تستطع تلك القرون الماضية من الزمان أن تُعافي جروحها العنصرية المقيتة، على الرغم ممَّا كتبه العديد من المؤرخين المُناصرين لإبادة أهل أمريكا الأصليين وهم الهنود الحمر، وكذلك في استعباد الأحرار الذين جُلِبوا عنُوةً كعبيدٍ من القارة الأفريقية السوداء.

إنَّ الغالبية المُطلقة من المؤرخين الغربيين للأسف بمن فيهم مؤرخو المجمع الكنسي بشقيه (البروتستانت والكاثوليك) على حدٍ سواء، كانوا يُناصرون فكرة الإبادة والعبودية من منطلق أنَّه حقٌ تاريخي للإنسان الأبيض الذي شقَّ بمفرده عباب البحر، وتجاوز أهوال المحيط الأطلسي، وبنى هُناك مجداً عظيماً لأمريكا وحقَّق بمفرده ما سُمِّي (بالحلم الأمريكي) الفريد في القارة الجديدة التي صنعها المستكشف المغامر للرجل الأوروبي الأبيض، ولا ضير لدى هؤلاء المؤرخون الانتهازيون العنصريون بأنْ يُخفوا الحقائق المُروعة التي حدثت لسكان أمريكا الأصليون من الهنود الحمر، وكذلك في إخفاء المعلومات حول نقل وتهجير الأفارقة من بُلدانهم ونقلهم من مرافئ شواطئ أفريقيا السوداء عُنوةً وبالقوة المُفرطة، مروراً بميناء ليفربول الإنجليزي وانتهاءً بشواطئ الأمريكيتين، لكن وللأمانة التاريخية نُشير بأنَّ عدداً من الشخصيات الأوروبية والأمريكية وهم مؤرخون ومفكرون من العرق الأبيض، برزوا كأحرار، قد كتبوا وثبَّتوا حقائق التاريخ بالأرقام وحتى الأمكنة التي اُرتُكِبَتْ فيها جرائم المستعمر الأبيض الذي عاث في الأرض فساداً.

وعودةً لحكايات إسقاط التماثيل حول العالم، فإنَّها تُعدُّ ظاهرةً متكررة في التاريخ القريب والبعيد، فقد شاهدنا سقوط تماثيل الإمبراطورية البريطانية مع بداية عصر الثورات الوطنية التحرُرية في المستعمرات البريطانية المنتشرة حول العالم ، وكذلك في البلدان الأوروبية الشرقية بما فيها روسيا الاتحادية، حينما أزالت تماثيل قياصرة روسيا بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العُظمى، كيف تعاملت مع تماثيل مفكري ومُؤسسي البلدان الاشتراكية، أمثال: كارل ماركس، وفريدريك أنجلز وفلاديمير لينين وقبلهم جوزيف ستالين، لكن تلك التماثيل تضاعفت مرات عِدَّة في جمهورية الصين الشعبية، حتى أنَّها أهدت الألمان في العام 2014م تماثيل عملاقة للمفكرين اليساريين الألمانيين كارل ماركس وفريدريك إنجلز تخليداً لعطائهما الفكري العميق حول العالم.

كما نتذكر ما حدث لتماثيل رموز الحقبة الشمولية من حُكَّام العهد الاشتراكي في أوروبا الشرقية، كما شاهدنا وعبر الفضائيات كيف تصرفت حركة طالبان الأفغانية مع تماثيل بوذا العملاقة في جبال باميان، حيث فجرتها بالديناميت أمام عدسات كاميرا الصحفيين الذين غطَّوا الحدث لنقله لجميع المشاهدين بالعالم، ونتذكر كيف تم إسقاط تمثال الرفيق منجيستو هيلا ماريام رئيس جمهورية إثيوبيا الاشتراكية في وسط العاصمة الأثيوبية أديس أبابا عام 1991م، ولن ينسى التاريخ مشهد احتلال الولايات المتحدة الأمريكية لجمهورية العراق في العام 2003م، وكيف شاهد العالم بأسره مظهر الجندي الأمريكي الذي اعتلى تمثال القائد (صدام حسين المجيد) الواقف في قلب بغداد ، حينما غطَّى وجهه بالعلم الأمريكي قبل سحبه وإسقاطه بدبابةٍ أمريكيةٍ غازيه، وفِي جمهورية الهند حينما قرروا إزالة تمثال احد ملوك بريطانيا العُظمى، فبعد استقلال جمهورية الهند تم نقل ذلك التمثال إلى حديقة الحيوانات في تعبيرٍ رمزيٍ بأنَّ مكانه الطبيعي هُنا مع الحيوانات الهندية، كما تَمَّ إسقاط تمثال كريستوفر كولمبس في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية ومنها جمهورية فنزويلا عام 2004م، والأمثلة هُنا عديدة.

أمَّا في هذه الأيام – (من تاريخ جورج فلويد) – ومع تنامي احتجاجات الشعوب في كلٍ من أمريكا وأوروبا وحتى أستراليا، ونتيجة للغضب العارم من المُحتجين فقد تمَّ تدمير وإسقاط العديد من التماثيل المرتبط تاريخها بالاستعمار وتجارة الرق، ومن بينها رؤساء أمريكا السابقين وتماثيل كريستوفر كولمبس بطبيعة الحال وحتى بطل بريطانيا وقائد نصرها في الحرب العالمية الثانية السيد/ ونستون تشرشل لم يسلم من الجدل في إسقاطه أم لا، وليس غريباً بأنْ يكون تمثال مؤسس أمريكا الحديثة وكاتب جُزءٍ من دستورها وتعلو أيقونته العُملة الأمريكية الدولار التي يعرفها العالم بأسره، هُنا تَظهر المفارقة العجيبة في الحدث برُمته.

إنَّ إسقاط تلك التماثيل وغيرها العديد الذي لا يسع الحيِّز هُنا لسردها، كان عبارةً عن ائذان الزمن بنهاية حقبةٍ تاريخية مُحددةٍ من فترة بروز هؤلاء القادة (العُظماء) الذين سطَّروا من وجهة نظر أنصارهم وشعوبهم ملاحم بطولية تاريخية هامة في زمنٍ مُحددٍ ومعلوم، لكن ومع تقادم الزمن وانتهاء مُبرر اعتلائه على مواقع هامة من الجادات والشوارع والميادين والجسور في مدنهم وبلدانهم، جاء الوقت كلحظةٍ فاصلةٍ لإزالتها وتجميعها ووضعها في مكانٍ ما في بُلدانهم كالمتاحف أو البدرومات أو الحدائق الخلفية في مدنهم العامرة.

هُنا يُثار التساؤل العريض وخاصةً حينما يُقرر المتظاهرون المُحتجون على حادثة مقتل أو إعدام/ جورج فلويد ومعظمهم من الأمريكيين البيض، قرروا تحطيم تمثال الرئيس/ جورج واشنطن مؤسس أمريكا والمساهم في صياغة دستورها، لكنَّ الواضح هُنا بأنَّ ماضيه المشبوه تجاه قتل السُكان الأصليين من الهنود الحمر وتجارته بالرقيق للسود، وجميعها كانت إدانات مُثبتة في سجله الشخصي ولم يستطع التخلُص منه حتى يومنا هذا، لذلك ولأنَّ أجواء الحرية التي يُتيحها النظام الليبرالي الرأسمالي الغربي لجمهوره ومواطنيه، فقد قرَّر المُتظاهرون إسقاط العديد من تماثيل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية بمن فيهم مؤسس دولتهم السيد جورج واشنطن، التي سُمِّيت عاصمتهم باسمه، كما سُميت باسمه العديد من الجامعات والمعاهد والساحات والمراكز، وهذه إحدى علامات ومفارقات الزمن بأنَّ ماضيك يستمر جزء منك لا تبدله الأيام ولا مئاتٍ من القرون، ويصبح ذلك الشخص إن كان حياً أو ميتاً ناقلاً مجبراً على حمل تاريخه بمفرده، وبالذات تلك القيادات التي لَعَبتْ أدواراً محورية في تاريخ شعوبها.

ما هو الدرس الذي تعلمته البشرية من أحداث مقتل جورج فلويد؟:

أولاً:
إنَّ الحرية والانعتاق من العبودية للفرد والجماعية هي مطالب حقيقية للشعوب، وهو هدفٌ سامِ لجميع الشعوب الحُرَّة مُنذ أنْ ثار (القائد المُستعبد)/ سبارتاكوس، وقيادته للثوار العبيد عام (73ق٠م) في عصر الإمبراطورية الرومانية وظلَّ هذا المطلب مستمر حتى يومنا هذا في زمن قتل جورج فلويد.

ثانياً:
إنَّ القوة غالباً ما تكون نسبيةً وما هو قويٌ اليوم سيُصبح ضعيفاً بالغد وبالتالي الاستقواء بقوَّة السلاح أضعف بكثيرٍ من الاستقواء بقوَّة القانون وحُجج المنطق الإنساني، ولذلك يشهد العالم بأنَّ هذه المجتمعات تُعاني من تحديين: ماديٍ وأخلاقي.

ثالثاً:
التطور التاريخي لرواية تطور الشعوب في المجتمعات الإنسانية مرَّ بعددٍ من المراحل، وكانت العبودية جزءاً أصيلاً من تطورها وبالتالي هي مُكون أصيل من طبقاتها الاجتماعية، وقد حاول الفلاسفة والمفكرين وكذلك الديانات الوضعية والإبراهيمية مُعالجتها، لكنَّها لم تصل إلى علاجٍ حقيقي يزيل هذا الألم المصاحب لتطور الإنسانية، والغريب أنَّ بعض تلك الديانات كرَّست ظاهرة العبودية وبُرَّرت وجودها، لكنَّها حتى اللحظة واقفة عاجزة عن المُعالجة الجذرية لأقذر ظاهرةٍ بشريةٍ في التاريخ، وأي مجتمع يُصاب بداء العُنصرية ولم يجتهد في علاجها ستظلُّ مُكبَّلة حبيسة أفكارها وأوهامها العنصرية ولن تستطع حل التناقُض الحاد بين نظرية التفوق للإنسان الأبيض مُقابل جميع الأجناس، والمجتمع الرأسمالي الغربي وبما لديه من القوة والجاهِ والسُلطان معني بمعالجة ماضيه العنصري المقيت وفقاً للشرائع والقانون.

رابعاً:
إنَّ سردية التاريخ هي روايات وحكايات جاذبة مُشوقه للهُواة والمحترفين في علوم التاريخ، لكنها في المقابل هي سردية أمراض الإنسانية، والعُنصرية والعبودية إحدى مظاهر تجلياتها المُرعبة، هنا ينبغي أنْ تتعلم النُظم والمجتمعات وحتى الديانات من دروس تلك الجرائم التاريخية وتضع لها أُسس ومعايير الحل الجذري برؤيةٍ فلسفية إنسانية أخلاقية عميقة.

خامساً:
لقد كان للوعي العالي الجمعي للأُمم والشعوب تجاه ظاهرة العنصرية المقيتة، تجلَّت في تلك الحشود الكبيرة التي شاهدناها في جميع المدن الأمريكية تقريباً، ومعظم المحتجين هم من العِرق الأبيض، كما شاهدنا تلك الحشود المُحتجة في مُدنٍ عديدة في العالم من هافانا، وريو دي جانيرو، وسانتياغو، ولندن، وباريس، وبرلين، وبروكسل، وملبورن، وسيدني، هذه التظاهرات رفعت شعار (حياة السود مهمة BLM: Black Life Matters)، و (لا أستطيع أن أتنفس I Can’t Breath)، وهي ظاهرة تنامي وعي الشعوب بالعالم تجاه قُبح العُنصرية والعُنصريين الذين يُشكلون خطراً مُحدقاً بالشعوب والتعايش فيما بينها.

سادساً:
النظام البريطاني والفرنسي باعتبارهما حاملاً لميراث العهد الاستعماري لا يخجلون في أن يُبرزوا رموزهم السياسية والعسكرية، ويضعون لهم التماثيل اللائقة بهم بهدف تخليدهم كأبطالٍ ينسجم مع تاريخ بلديهم، وهذا حقهم بطبيعة الحال، منهم على سبيل المثال: (آرثر بلفور) صاحب الوعد اللعين للصهاينة بأنْ تمنحهم بريطانيا (العُظمى) وطناً في أرض فلسطين العربية باعتباره (أرض الميعاد)، وسايكس – بيكو اللذان ارتبطت أسماؤهم بقضيةٍ مُؤلمة للعرب وهي تقسيم بلادهم العربية كمرتع نفوذ ما بين المستعمرين المحتلين للأراضي العربية وهما فرنسا وبريطانيا، لكن الشعوب العربية والإسلامية وحكوماتهم العديدة عليها أنْ تتذكر أنَّ تلك الرموز والتماثيل لتلك الشخصيات البريطانية والفرنسية لعبت أدواراً إجراميةً بحق الحقوق التاريخية للشعوب العربية والإسلامية كي يبقوا في ذاكرة الأجيال ملعونين مُدانين، وكي يبقى وعي الأُمة في مثل تلك القضايا حيةً ويقظة، لكنَّه يُقال أنَّ مُعظم القادة العرب سياسيين وبرلمانيين وحتى سفرائهم المُبجَّلين لم يحتجوا يوماً على وجود تلك التماثيل والرموز في المباني البرلمانية والحكومية التي يترددون لزيارتها، ولو من باب الاحتجاج فحسب، وهذا مردَّه لغياب الوعي الجمعي بدرس التاريخ وعبرته وأثره على حياة الأُمة، ولهذا لم نُشاهد أي احتجاج واحد حقيقي تم تنظيمه في منطقتنا تُندد بالعُنصرية والعُبودية بشكلٍ عام، ولا الاحتجاج على ما زرعها المُحتل الاستعماري الغربي، ولا على رموز الحقبة الاستعمارية البغيضة بِرُمتها، ولهذا فإنَّ ارتفاع منسوب الوعي الذهني للأفراد والجماعات هو الحد الفاصل بين مخلوق الإنسان وسواه من بقيَّة المخلوقات التي خلقها اللَّه على هذه الأرض.

سابعاً:
ظاهرتان أطلَّتا علينا في العام 2020م، هُما جائحة فايروس كورونا وهذه الظاهرة هزَّت العالم بأسره، وتحولت الإنسانية في كل الكرة الأرضية إلى أشبه بالأسرة الواحدة، جميعنا خاف واهتزَّ ولبس الكِمامات والقفازات (الجوانتيز) والتزم بالتباعُد الاجتماعي وحرص على مبدأ التعقيم إلى حد الانعزال، وأحسسنا بأنَّ زمن الكارثة الوبائية قد طال، وتوقفت رحلاتنا وأنشطتنا، وخسر الملايين من العمال وظائفهم وغيره من التشابه حدَّ التطابق وتبيَّن لنا فجأةً بأنَّ البشرية أمام هذا الفيروس أصبحوا يتشاركون في كل شيء، لكنَّ الفارق بين الناس بأنَّ الفقراء ازدادوا فقراً، وأنَّ الحُفنة الغنية المتخمة قد زادت من أرصدتها، هذا التباينُ أحدث التناقض الحاد بين توحُّد الإنسانية جمعاء جرَّاء الخوف من هذا الوباء ونتائجه، وبين ازدياد مُعدلات تراكُم الثروة في بعض الأنشطة إلى حدَّ التُخمة، هذا التناقض غير المُسيطر عليه في مجتمع اقتصاد السوق الحُر هو جوهر الإشكالية في أيِّ نظامٍ سياسيٍ واقتصاديٍ على مرِّ التاريخ، وبالتالي كيف يُمكن رؤية التغيير المطلوب لصالح الإنسانية!!، وهذا يحتاج إلى جُهدٍ علميٍ وسياسيٍ جماعي إنساني يهدف إلى حل التناقض وإشكالاته التي تأذت منه البشرية من جانب والطبيعة من جانبٍ آخر، ولا نريد هُنا الانزلاق إلى النظريات الاشتراكية الجاهزة التي سطَّرها عددٌ من المفكرين اليساريين أمثال كارل ماركس، وفريدريك أنجلز، وفلاديمير لينين، وماو تسي تونغ، وحتى ناعومي تشومسكي المُفكر الأمريكي اليساري، مع أنَّ هناك آلاف الملايين من أتباعهم لازالوا يتمسكون بنظرياتهم ورؤاهم الفكرية والفلسفية لموضوعة (القيمة الزائدة أو فائض القيمة)، لكنَّنا عشنا معاً زمن الجائحة ولا زلنا، وشاهدنا التأثير الحاد على الأوضاع الاقتصادية كانت عاليةٌ ومُكلفةٌ جداً لجهة خسائر المجتمعات والدول والمؤسسات الإنسانية، لكن في المُقابل فإنَّه لازالت الأرقام التي قدَّمتها المُنظمات غير الحكومية للمقارنات على مستوى اختلال معادلة التملُك بين الأفراد والجماعات، حيث يقول تقرير منظمة الأوكسفام البريطانية بشأن عدم تكافؤ التملُك والاستحواذ على الثروة العالمية بأنَّ 1% من سكان العالم من الأثرياء يستحوذون على 82% من الثروة العالمية (المعلومات مأخوذة من التقارير 2017، 2018م) التي قدَّمتها منظمة اوكسفام.

وتُواصل المُنظمة في الاسترسال في تقاريرها السنوية بأنَّ ثروة 8 أفراد تعادل ثروة نصف سكان الكرة الأرضية البالغة تعدادهم 7مليارات إنسان على سطح هذه الأرض.

فالمعادلة هُنا مختلة تماماً والحل يكمن في المعالجات المالية تجاه هؤلاء على سبيل المثال، مضاعفة الضرائب والجمارك على تلك الثروات لتحويلها لصالح الإنسان ووفقاً للضوابط القانونية.

الخلاصة:

جميع المهتمين بالشأن العام من المثقفين وأصحاب القرار، ووِفقاً لمعطيات ما خلَّفته جائحة كورونا، وما خلَّفه زلزال قتل الشاب/ جورج فلويد، وما آلت إليه البيئة والنظام البيئي الكوني على الصعيد العالمي كله، هذه المؤشرات الخطيرة جداً على النُظم السياسية والبيئية والإنسانية تتطلب التغيير للحفاظ على مُستقبل البشرية، مع إدراكنا المسبق بأنَّ نظام اقتصاد السوق الحُر بآلياته الخفيَّة السحرية، كفيلة بالتكيفُ والتأقلمُ مع أي واقعٍ جديد، لكنَّه إلى حينٍ فحسب، وأنَّ أيَّ تأخير في هذا السياق قد يُضيع على البشرية الحفاظ على هذا الكون الجميل الذي بات يُشكلُ أمانةً ملقاةً على عاتق الجميع والحفاظ عليها قبل أن تضيع الفرصة التاريخية بشكل نهائي، ومع إقرارنا بأنَّ مُسمَّى (اقتصاد السوق الحُر) ما هو إلاّ تحسين وماكياج للصورة القبيحة التي يُمثلها النظام الرأسمالي الاحتكاري الجشع المتوحش، نُؤكد بأنَّ فُرصة التغيير في هذه المرَّة لازال مُتاحةً وممكنةً وواقعية، لكن إذا ضاعت هذه الفرصة قد لا تجد البشرية فُرصةً أُخرى وسيضيع كل ما أنجزته الإنسانية لقرونٍ خلت من التطور، فأكثر الناس تشاؤماً بشأن ما حدث مُنذ مطلع عام 2020م، لم يصلوا إلى تلك القراءات السلبية المُتشائمة في تحليل الواقع، والعقلاء منهم ناشدوا ويُناشدون أصحاب القرار العالمي بأنَّ حُقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية بمؤسساتها المالية والاقتصادية والسياسية والأمنية، بما فيها هيئات الأُمم المتحدة يجب أنْ تتبدل في الشكل والمضمون، وأنَّ قيادة العالم لجميع مراحل التغيير مَعنيةٌ بالتركيز على التطوير والتغيير في جميع ما عُرف بالمُسلَّمات التاريخية التي ورثوها في العالم الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية، ما لم يحدث ذلك التغيير المرجو فعلينا أن نتوقع المزيد من التحديات التي تُواجه كُرتنا الأرضية من أحداثٍ وتحدياتٍ صعبة في قادم الأيام، واللّه أَعْلمُ مِنَّا جَمِيعاً.‏

﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾


في الجمعة 10 يوليو-تموز 2020 07:07:58 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=2676