|
في 14 يوليو 1789م سقط سجن الباستيل في باريس وحين سمع الملك الفرنسي لويس السادس عشر من رسوله لبارنكوت بسقوط الباستيل وتمرد القوات الملكية والهجوم الشعبي قال في وجه رسوله “انه تمرد “فصححه ليانكورت قائلا:”كلا يا صاحب الجلالة إنها ثورة”.
ليس من قبيل المبالغة مقارنة سقوط الفرقة أولى مدرعة في 21سبتمبر بسقوط الباستيل كرمز للسطوة والقوة والبطش والطغيان فالفرقة كانت تمثل آلة البطش والتنكيل لـ”كوكتيل” النظام السابق والذراع الدموية الضاربة والطويلة التي يمكنها أن تصل لكل خصوم هذا “الكوكتيل” أيا كانوا وإن كانوا ,والمدفن الرهيب لرفات المدفونين أحياء من قادة حركة أكتوبر الناصرية ,والقلعة الرابضة على تل مرتفع في قلب صنعاء ترصد أنفاسها وتحرسها من أبنائها .. ,وسقوطها سقوط لهذه الرمزية في الوعي الجمعي اليمني ,وسقوط لكابوس ظل يؤرق معارضي النظام لعقود خلت .
والسؤال هنا: هل ما حدث في 21سبتمبر 2014م ثورة ، أم انقلاب وتمرد ؟
بالتأكيد ستختلف النظرة لها كما اختلفت نظرة الملك لويس ورسوله ليانكورت لسقوط سجن الباستيل ,وحتى لا نغرق في معارك المشاغبين . المدخل الصحيح للإجابة على هذا السؤال تكون من خلال تفكيك مفهوم الثورة ,ماهيتها ,خصائصها ,أنواعها,استراتيجياتها وشروطها الذاتية والموضوعية …الخ.
مصطلح “ثورة” مصطلح إشكالي ليس من اليسير القبض عليه في ترسيم جامع مانع ,تعددت وتطورت استعمالاته ودلالاته بتعدد حقولها, ثورة صناعية ,علمية , ثقافية, سياسية ,اجتماعية ,برجوازية ,بروليتارية ,تحرير وطني..الخ وبتعدد المرجعيات النظرية والمداخل التفسيرية .
في مدونات الفقه السياسي الإسلامية التقليدية كان يستخدم مصطلح”الخروج” للدلالة على المساعي الجمعية للإطاحة بالأنظمة العائلية المستبدة عند الجماعات الثورية ,ومصطلح “فتنة” عند الجماعات المحافظة والسلفية, إلا أن استعماله بالمعنى السياسي والاجتماعي حديث نسبيا ارتبط على نحو وثيق بالثورة الفرنسية 1798م.
تعرف موسوعة علم الاجتماع الثورة أنها “التغييرات الجذرية في البنى المؤسسية للمجتمع، والتي تعمل على تبديل المجتمع ظاهرياً وجوهرياً من نمط سائد إلى نمط جديد يتوافق مع مبادئ وقيم وأيديولوجية وأهداف الثورة، وقد تكون الثورة عنيفة دموية، وقد تكون سلمية، وتكون فجائية سريعة أو بطيئة تدريجية”.
وترتكز المقاربة الماركسية للثورة على أساس التحليل الاقتصادي والصراع الطبقي هو الأساس الذي يطبق مفهوم الثورة على نضالات الفلاحين والبرجوازية ضد الإقطاعية ونضالات البروليتاريا ضد البرجوازية، يقول ماركس، إن قوى الإنتاج في فترة من فترات تطورها تدخل في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة التي تصبح عائقا أمام هذا التطور وعندها تبدأ مرحلة الثورات الاجتماعية .فالثورة شكل من أشكال الانتقال ومرحلة حتمية من مراحل التطور التاريخي نتيجة للتناقض البنيوي بين التشكيلات الاقتصادية .
يفرق معجم الماركسية النقدي بين الثورة الاجتماعية والثورة السياسية باعتبار الثورة الاجتماعية سيرورة سياسية واجتماعية طويلة المدى تلغي المجتمع القديم ,أما الثورة السياسية فهي مفهوم تقني للمستوى السياسي التقليدي، بمعنى تبدل عادي للسلطة داخل الطبقة المهيمنة .
يعرف عالم الاجتماع الفرنسي توكفيل الثورة الاجتماعية بأنها مجموع العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والايديولوجية والتقنية والتحديثية العميقة طويلة المدى والانتقال الاجتماعي لا يتمثل بضربة عنيفة واحدة تفتح الباب امام تحول تاريخي، فانتقال فرنسا من الإقطاع إلى الرأسمالية حدث خلال عهد طويل أما الثورة السياسية فهي اللحظة أو الضربة أو “الداية ” أو المولدة مهما جلبت معها من تطورات كبيرة أو صغيرة , والثورة الاجتماعية كعملية متواصلة قبل لحظة الثورة وبعدها وقد تمتد لقرون وقد تحتاج إلى ثورات سياسية عنيفة وقد لا تحتاج بحسب شروط وظروف مجتمع الثورة
(انظر هيثم مزاحم في ثورات قلقة مقاربة سوسيو-استراتيجية للحراك العربي)
على هذا فإن جوهر الثورة يكمن في التغيير وقد يكون راديكاليا عميقا يمس النسق الاجتماعي ككل وقد يكون فوقيا على المستوى السياسي ,والثورة الاجتماعية باعتبارها سلسلة من عمليات التحول التاريجية والتراكمية المتدرجة تنتهي بتجاوز النظام الاجتماعي,وكما في الثورة الروسية باعتبارها سلسلة من الاضطرابات والانتفاضات الشعبية أحدثت تحولات عميقة نقلت روسيا من مجتمع زراعي متخلف إلى مجتمع صناعي متقدم.
وبالنسبة للحدث التاريخي في 21 سبتمبر 2014م لا يمكن عزله عن أحداث 11 فبراير 2011م، بل عن ما هو أبعد أعني ثورة 26سبتمبر 1962م ومقاربته ضمن المسار العام لسلسلة التحولات الاجتماعية والسياسية الممتدة منذ منتصف القرن الماضي , التي تتغيا إحداث نقلة نوعية تتجاوز البنى التقليدية للمجتمع اليمني ,سلسلة التحولات هذه يمكن -بالنظر لغايتها- أن نصفها “بالثورة الاجتماعية” وإن كانت على مستوى الانجاز هزت من النسق الكلي التقليدي للمجتمع اليمني وحدثت نسبيا في بعض مجالاته دون أن تفلح في تجاوزه والبلوغ به الى المجتمع المدني ,وسلسلة العلميات بدأت من 26 سبتمبر وما قبلها وما بعدها مرورا بـ11فبراير بلوغا لـ21 سبتمبر هي لحظات ثورية او ثورات سياسية مهما تفاوتت نتائجها والتطورات التي اجتلبتها ضمن التحول الشامل للثورة الاجتماعية .
وثورة 26سبتمبر رغم أنها أطاحت بنظام الإمامة السياسية واستبدلته بالنظام الجمهوري إلا أنها عجزت عن كسر العلاقات الاقتصادية والاجتماعية -كما يقول- ايلينا جولوفكايا في كتابة “التطور السياسي للجمهورية العربية اليمنية 62-1985” وعلى حده انقلاب 26 سبتمبر 1962م ثورة برجوازية سياسية فوقية لم تكن سوى حلقة خاصة ضمن المسار العام والطويل المدى للثورة البرجوازية الاجتماعية , ويضيف: اتخذت الثورة في اليمن الشمالي صفة الفعل المستمر والمتواصل وهو الأمر الذي ارتبط بضعف تحالف البرجوازية المحلية .., والشرائح الإقطاعية احتلت مواقع قيادية عليا في الجهاز الحكومي والإداري ووقفت بحزم ضد أي محاولة لكسر العلاقات الاقتصادية والاجتماعية, وأعاقت من الدفعة التحديثية والتقدمية للحدث السبتمبري.
لست بصدد الاستفصال في العوائق، إلا أن تحالف كتلة الإقطاع القبلي والعسكر والبيروقراطية الإدارية والسياسية الانتهازية ساهم في كبح عجلة التحديث وإعادة إنتاج القبيلة ومفصلتها مع الدولة , وتعايش أنماط من الإقطاع أو شبه الإقطاعية مع نشوء برجوازية كمبرادورية احتكارية وبورقراطية طفيلية ,كرست التفاوت الاجتماعي وأدت إلى ضمور الطبقة الوسطى وإفقار غالبية فئات الشعب .
مضاعفات السياسات التي اتبعها النظام السابق إلى مرحلة الانفجار الثوري في 11 فبراير 2011م في ظروف محلية وإقليمية ودولية ساعدت بشكل أو بآخر على ضبط الإيقاع الثوري وقبل فصيل من المحسوبين على الثورة الدخول في تسوية سياسية أعادت ترتيب أوضاع أطراف النظام القديم وبتوقيع المبادرة الخليجية أعلن هذا الفصيل عن اختتام فصول الثورة والاكتفاء بهذه الإصلاحات ,وبقي فصيل آخر على رأسه جماعة أنصار الله في التمسك بالخيار الثوري دون أن يمانع الدخول في المسار السياسي، نظراً للتعقيدات التي فرضتها المبادرة على شروط الحسم الثوري .
ولأن الثورة ليست مسرحية يمكن إنهاء فصولها بحسب رغبة المخرج بل تبقى ما بقيت شروطها الموضوعية والذاتية قائمة ,والتسوية التي فرضتها المبادرة نتج عنها إصلاحات متواضعة وعلى المستوى السياسي فقط حركت جزئيا من المواقع ضمن تركيبة النظام القديم مع بعض الإدخالات التجميلية.
لم توفق حكومة الوفاق ولا الرئيس في التخفيف من الاحتقانات التي كانت سببا في ثورة فبراير وبالغوا في الانصراف عن الجماهير, وعن المضامين الاجتماعية لثورة فبراير ,وشرعت الحكومة في اتخاذ سلسلة من السياسات الاقتصادية الكارثية للتواؤم مع مصالح الاقتصاد الرأسمالي والصفوة السياسية ,دون أدنى التفاتة لما تمثله من عدوان سافر على مصالح الكتلة السكانية الأكبر من الفلاحين والفئات المفقرة ,ترافق هذا كله مع محاولات حثيثة لإفراغ العملية الحوارية من مضمونها وتحويلها لعملية شكلية بنفس عقلية النظام السابق .
كانت الأحداث تتسارع بطريقة درامية أكبر من القدرة على ضبطها أو التحكم فيها بتلك الطريقة الصبيانية البلهاء إلى أن آنت لحظة 21 سبتمبر وأفلحت في توجيه أعنف ضربة منذ 1962م لمثلث الحلف التاريخي الإقطاع القبلي ,العسكري ,الديني الراديكالي .
من المبكر الحكم على ثورة 21 سبتمبر، لكن بما أن التغيير يمثل جوهر الحدث الثوري فإن التغييرات التي أحدثتها أو تناضل لإحداثها أكثر عمقا مما أحدثته ثورة فبراير كلحظتين ثوريتين في المسار الثوري العام سواء على الصعيد السياسي الداخلي بإسقاط حكومة الوفاق وتصحيح مسار وهيئات الحوار الوطني والسلطات التشريعية والخارجي في علاقات اليمن الإقليمية والدولية أو الأمني مع العناصر التكفيرية التابعة للقاعدة والاقتصادي بتراجع الحكومة عن رفع الدعم وتشكيل لجنة اقتصادية معنية بوضع معالجات التعثر الاقتصادي والحد من الفساد .
يتعلل البعض بالإجماع الشعبي أو الوطني على الثورة ومع ما للاحتضان الشعبي من أهمية بالنسبة للثورة إلا أن شرط الإجماع لم يتحقق لأي ثورة في العالم الحديث وفي الثورة الصينية كان الجيش التابع لحكومة الكومينتانغ ثلاثة أضعاف ونصف جيش التحرير الشعبي بقيادة قائد الثورة الصينية ما وتسي تونغ .
في الأربعاء 23 سبتمبر-أيلول 2020 07:16:20 م