|
القارئ لحركة التاريخ اليمني يلمح نزعة الذات اليمنية إلى التسلط أو إلى التصدر , وبسبب تلك النزعة كانت تحدث الصراعات والانقسامات ولم تزل تلك النزعة أكثر بروزاً في تاريخنا المعاصر وهي ذات تجذر تاريخي , واستمرارها في الذات اليمنية لا يعني أكثر من استمرار حركة التاريخ كمتواليات تفاعلية ذات تشابه في الأحداث والوقائع.
وحين نتحدث عن التغيير والانتقال في ظل غياب البعد المعرفي للجذر التكويني وغياب الدراسات الاجتماعية والانثروبولوجية فنحن نتحدث عن أماني , والأماني هي تعبير عن حالة تطلعية في ظل معوقات واقعية موضوعية ,لم نملك القدرة المعرفية على تفكيكها حتى نتمكن من ابتكار البدائل وبما يساهم في العملية الانحرافية في المساق التاريخي .
مشكلة اليمن منذ بدء نشأة الدولة الحديثة في مطلع القرن الماضي أنها تنفق جل الموازنة العامة على مفردات القوة وإدارة الصراع ولم تفكر يوماً في أهمية البحث العلمي في التخفيف من حدة الصراع وقدرته على إحداث عمليات الانتقال , فالتعبيرات السياسية المتعددة التي وصلت إلى سدة الحكم تستغرق ذاتها في صراعها مع الآخر وفق حالات انفعالية , وهي بذلك تستسلم بكل إرادتها لقانون التاريخ وتفسح له المجال كي يكرر نفسه وأحداثه ووقائعه إلى درجة تعطيل حركة المجتمع في التحديث والانتقال , فالحرب والصراعات والنزاعات تعمل على يقظة الهويات التاريخية بكل تشوهاتها ونتوءاتها التي لا تتناغم مع روح العصر الذي نعيش لذلك فكل الحروب التي حدثت بعد عام 1990م لم تترك إلا مجتمعاً متخلفاً , وثقافة تقليدية , واقتصادا راكداً , حتى تلك التحولات التي ظننا أنها تحولات , لم تكن تحولات بنيوية عميقة فقد تركت وراءها مجتمعاً مغترباً وثقافة مستلبة , وشخصية منقسمة على نفسها . فالحرب هي بمثابة الانقطاع الحضاري المتجدد في المكان الجغرافي , والزمان التاريخي بما تتركه من أثر في النسيج الاجتماعي والثقافي والأخلاقي , ومثل ذلك يكون سبباً مباشراً في ازدواج الشخصية , وتنافر السلوك , بل يكاد يشكل تعارضاً بين الفكر والممارسة .
وأمام مثل ذلك تصبح حاجتنا إلى المعرفة في البناء المتناغم مع الجذر التكويني والمتفاعل مع المتغيرات العصرية أكثر ضرورة وأشد إلحاحاً في ظل ما تشهده من حالات جدل واسع حول بناء الدولة , فالقوالب الجاهزة والنماذج العالمية في شكل الحكم ونمطه لم تتأثر بها الدولة اليمنية التاريخية بل ابتكرت نموذجها الخاص وشكلها المعبر عن تكوينها وأبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية , ولذلك رأينا التناقض بين النماذج والأشكال التي خضنا تجربتها في تاريخنا المعاصر وبين حاجات المجتمع الذي نسوس ضروراته التحديثية , إذ نشأت حالات تصادمية بين مكونات المجتمع والتعبيرات السياسية مثل حالات الصدام بين المؤسسة الدينية والقوى الطلائعية , والصدام بين الرموز الاجتماعية والدولة , فالصدام مع المؤسسة الدينية أوقعنا في حفرة الفراغ الحضاري والثقافي , الذي عمل على إنتاج ازدواج الشخصية , وتنافر السلوك الذي شكل تعارضاً بين الفكر والممارسة , والصدام مع الرموز الاجتماعية عمل على تعطيل سلطة القانون وغياب الدولة واغتراب المجتمع , وسيادة الثقافة التقليدية وبسبب ذلك ظلت كل العمليات التحويلية في ذات المربع الذي بدأته إذ كانت مظهراً شكلياً لم يلامس الأسس البنيوية للمجتمع , فالوحدة اليمنية مثلاً حملت مشروعاً نهضوياً وتحولياً كاد أن يصل إلى كل البنى المجتمعية، بيد أن حرب 1994م حولت ذلك المشروع إلى ظاهرة شكلية, فالثقافة التقليدية تجلت ملامحها من خلال مشروع الشيخ الذي بدأ بعد 7 – 7 -1994م وعلى إثره كانت منظومة الحكم كلها ذات بعد معياري واحد، فالسلطة التشريعية كان جل قوامها من الرموز الاجتماعية , والجهاز التنفيذي والأمني والعسكري خضع للمعيارية الاجتماعية وغاب القانون والاستحقاق الوظيفي , فالعرف كان أقوى من القانون حتى في معيارية الوظيفة العامة تلك المقدمات كانت سبباً مباشراً وغير مباشر في شعار الحراكين باستعادة الدولة , كرمزية على غيابها وطغيان مشروع الشيخ الاجتماعي الذي تماهى مع مشروع الشيخ الديني كان عاملاً مهماً في غياب الدولة واغتراب إنسان المحافظات الجنوبية أكثر من اغتراب إنسان المحافظات الشمالية بسبب الحضور المكثف للدولة في الجنوب إبان فترة حكم الحزب الاشتراكي في حين كان حضورها حضوراً جزئياً في المحافظات الشمالية وأيضا متفاوتاً بين الفينة والأخرى .
ومعالجة الواقع اليمني الجديد – بالنقد والتفكيك – على ضوء أبرز الأدبيات العلمية والفكرية والأكاديمية المعاصرة أصبح ضرورة ثورية وضرورة تحديثية في سبيل توظيف ذلك الإنتاج الضخم ومفاتيحه النظرية لتحليل إشكالية الدولة في اليمن ومفهوم الثورة والهوية وتداخلهما مع ما تطرحه الرؤى الثورية التي تجتاح مجتمعاتنا العربية في ظل مناخ ما يسمى الربيع العربي , فالثورة والهوية تركا في واقعنا مصفوفة من التحديات، نشهد آثارها حولنا، تشظيًا وتفككًا للمشتركات الجامعة، وتضخمًا غير مسبوق للانتماءات والولاءات الطائفية والمذهبية والاثنية، ولا بد أن ندرك إدراكا واعيا أن ثمة علاقة وثيقة وحاضرة بقوة تدعونا لدراسة إشكالية الهوية والثقافة المتحركة والثورية من جهة، وبين الوعي الاجتماعي والأيديولوجيا من جهة ثانية. وتكمن الفكرة الأساسية في دراسات الثقافة والهوية والوعي في تحليل السيرورات التاريخية التي تؤدي إلى تدمير دائم للأشكال الاجتماعية القديمة، لتحل محلها أشكال جديدة تصنع واقعاً جديداً وتبتكر نظاماً يتسق معنا ويكون تعبيراً متطوراً عن السيرورة التاريخية لا منفصلاً عنها .
ما نخلص إليه هو القول ان ثمة خصوصية يمنية يجب أن تجد تعبيراً عنها في شكل وبنية الدولة القادمة حتى تمتد بصيغة تفاعلية مع الماضي لتبدع الحاضر والمستقبل , فالشعور بالقيمة الثقافية والحضارية هو الامتلاء الذي يبحث عن الأجد والأروع ويحض على الابتكار والإبداع ويعمق من قيمة الانتماء للفرد والجماعة ويوثق من عرى الأواصر الوطنية ويعزز من قيمة يمنية اليمن.
في الجمعة 06 نوفمبر-تشرين الثاني 2020 06:51:38 م