الشهادة والشهداء
د.حمود عبدالله الأهنومي
د.حمود عبدالله الأهنومي
 

ثمة سرٌّ عجيب، يَنبِعث من الشهيد عند شهادته في سبيل الله، يُعطي القضية العادلة التي قُتِل في سبيلها خلودًا مَضَّاءً، وحضورًا كثيفاً ومُشِعَّاً، سرٌّ لا يدركه مَن غلبت على قلوبهم وأرواحهم وعقولهم حجُبُ المادية الكثيفة، وسواتِرُ البعد الغليظ عن الله، بل من صفت مرايا قلوبهم، فأشرقت بنور الله، بأشعة البصيرة النافذة، وأنوار الرؤية السديدة.

***


انجلت الحرب الأولى التي شنها النظام السابق عن استشهاد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي، ودُفِن في قبرٍ مؤقّت، مع سيول من الشائعات، والتضليل حوله، وحول قضيته، في ظروفٍ كانت كفيلة، بدفن الرجل وحركته وقضيته إلى الأبد، لكن سرَّ الشهادة سرعان ما حلَّق رُوحًا ينعش الأجسام الهامدة، ومُنطَلقا لميلاد حركة ثورية جهادية، بات العالم اليوم يَضْرِبُ أخماسَ بداياتها في أسداس النهايات التي وصلت إليها.

ما الأمر إذن؟
إنه مِصْبَاحُ المشروع الصادق.. حين يشتعل بزيت الشهادة الخالد، ووَقود التضحية المتأبِّد..
ما هي الشهادة؟ ومن هو الشهيد الذي وهبه الله شيئا مما لديه، وهو العندية له، والحضور الحقيقي، والقرب منه تعالى، والخلود لقضيته، والبركة في تحركه وجهاده؟ وهل معناه الحاضر للمَشْهد أو المؤدِّي للشهادة؟ وهل ذلك في الدنيا أم في الآخرة؟ وهل تُفتَح للشهيد قنواتُ التعرُّف والحضور من مقامه الكريم إلى واقعه الذي استُشْهِدَ فيه؟ وما مصاديقُ ذلك من قضايا التاريخ؟ وأيُّ مقامٍ خالد تسنَّم ذروته هذا الرباني الكريم؟! وما هي الدروس والعبر التي حريٌّ بنا أن نستلهمها؟

الشهادة في اللغة والقرآن الكريم
وردت مفردة (شهد) في اللغة العربية وفي القرآن الكريم على معنيين:
المعنى الأول: الحضور، ومنه قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة:185]، وقوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور:2]، وقوله تعالى: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [الإسراء:78]، وقوله تعالى: (وَبَنِينَ شُهُوداً) [المدثر:13].
والمعنى الثاني: إدلاءٌ بشهادةٍ مُنبِئة عن حضورٍ مادي أو حضورٍ معنويٍّ ببصرٍ أو ببصيرة، قال تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:18]، ، وقوله تعالى: (وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة:107]، وهي هنا في حق أولي العلم مثلا: إدلاءٌ بشهادةٍ عن حضور معنوي في ساحة البصيرة، أما قوله تعالى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ) [يوسف:26]، فهي إدلاء بشهادة منبئة عن حضور مادي بالبصر الحسي.
ويتبيَّن أن بين المعنيين ارتباطًا هامًّا، وبعبارة أدق، يتبين أن المعنى الثاني يتركب من المعنى الأول وزيادة، أي من الحضور، وهو تحمُّل الشهادة، ومن القول بها، وهو أداؤها، وهذا يرجّح أن الشهادة في جَذْرِها الأصلي تعني الحضور، باعتباره أساسًا هامًّا في الشهادة بمعنى الإدلاء أو الإخبار بما علِمَه الشَّاهد، فالكثيرُ فرعٌ عن القليل.
فإذا انتقلنا إلى العرف الشرعي لكلمة (شهادة)، وجدنا أنها تطلق على ما يدلي به الشاهد من معلوماتٍ قاطعة رآها أو سمعها، أو تحمَّلها عن حضورٍ قطعي للمشهود فيه، كما وجدنا أيضا أنها باتت تُطْلَقُ عُرْفا إسلاميا عامًّا على القتيل في سبيل الله؛ حيث أُطلقت منذ أول الإسلام وإلى يومنا هذا على (القتل في سبيل الله)، وأطلق وصفُ (شهيد) الذي يُجْمَعُ على (شهداء) على (القتيل في سبيل الله)، وصار هذا مفهومًا مُجْمَعا عليه بين المسلمين جميعا، منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا.

علاقة الإطلاق الشرعي باللغوي
ويترجَّح أن الإطلاق الشرعي لكلمة شهيد على القتيل في سبيل الله جاء منسجما مع الوضع والإطلاق اللغوي؛ فالقتيل في سبيل الله هو ذلك الذي حضَر الموقفَ الحقَّ، وشهِد به وفيه شهادةً قولية، وشهادة عمليةً، وهي الشهادة بماله ودمه وروحه، وهي أقوى من الشهادة القولية، وبالتالي فإنه يصدُق عليه أنه شاهِدٌ، سواء قلنا: إن كلمة (شهيد) على وزن (فعيل) إحدى صيغ اسم الفاعل، من صيغ المبالغة، أو قلنا: إنه على وزن فعيل، اسم المفعول، مثل قتيل، أي مقتول، وشهيد هنا أي مسْتَشْهَد، مطلوب منه الحضور والشهادة، أو حضرته العناية الإلهية؛ وفي كلا الوجهين يصدُق على موقفه أنه شهادة، وأنه لقوة ذلك الموقف، ولتكرُّره، ولفضله، ولخصوصيته، اختص باشتقاق (شهيد) على وزن (فعيل).
وإذا كان الله قد نهى عن الإضرار بالشهيد بسبب شهادته واعتبره فسوقا، حيث قال: (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) (البقرة: 282)، فإن هذا الشهيد قدّمَ شهادته العملية على موقفه الحق، وقضيته العادلة، بأعلى درجات الحضور، وفي أعلى درجات الاستعداد لتبعات ذلك الحضور، وتبعات تلك الشهادة.
لقد قدّمَ روحه التي هي آخرُ ما يُمكِن أن يطاله إضرار الغير تعبيراً عن حضوره الواعي والأكثف في ذلك الموقف الحق.
ولعلَّ الله الكريم جازى الشهيد بأضعافِ ما قدَّم، فإذا كان الشهيد قدَّم روحَه بأن تنازل عن حضوره الزائف والمؤقت في الدنيا من أجل الله وفي سبيله، فإن الله أكسبه الحضورَ الحقيقي والقويَّ والخالد والثابتَ في الآخرة، وهيَّأ له مقام الشهادة العظيم.
ارتبطت الشهادة إذن بعملية الموت قتلا، ولهذا لا تُطْلَق الشهادة على مَنْ حضر الموقفَ الحق إلا إذا قتِل فيه، فلا تُطلَقُ على المجاهد الذي حضر المعركة وقاتل فيها ولو أبلى بلاء حسنا؛ ذلك لأنه لم يلِجْ بابَ الخلود، ولم يستكمل عملية الحضور الحقيقي في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأن حضوره المجازي في الدنيا، وهو البقاء في الدنيا، منَع عليه الحضورَ الحقيقي والكامل في الآخرة؛ ولأن الشهادة هي أيضا الحضور القوي والفاعل في عالم الحقيقة وهو العالَمُ الأخروي، ولا تكون إلا لمن اختاره الله شهيدا، وطاله القتل في سبيل الله ومن أجل إعلاء كلمة الله.
وبهذا يتبين:
-أن مصطلح الشهادة – كما يبدو – مصطلحٌ مُبتَكَر في الإسلام، ولم يكن معروفا في الجاهلية، وهو الذي يسمى عند البلاغيين بـ(الحقيقة الدينية)، ولما صار عُرْفا عاما في صدر الإسلام صار أيضا ما يعرف بـ(الحقيقة العُرفية العامة).
-وأن هناك علاقة معنوية واضحة بين هذا المصطلح الديني، والعرفي العام، وبين أصله اللغوي (شهد)، أي الحقيقة اللغوية لكلمة الشهادة، وهي علاقة من الأهمية بمكان الانطلاق منها لبحثِ نوعِ الحضور والإدلاءِ بالشهادة، ومظاهر ذلك الحضور والإدلاء بالشهادة، في واقع الشهيد الجهادي، وفي نتائج ذلك الواقع، وتبعاته، في الدنيا والآخرة.

دقة كلمة (شهيد وشهداء)
يمكن القول بأنه ليس هناك أفضلُ ولا أدقُّ من كلمة (شُهَداء) يمكن إطلاقها على أولئك القوم الذين حَمَلوا مناياهم على أكُفِّهم، وأكفانَهم على ظُهورهم، ساعةَ ذهبوا إلى الموقفِ الحقِّ فحضروه بقوة موقفهم، وأعلى مراتب استعدادِهم، لتحمُّل النتائجِ والآثارِ المترتِّبة على ذلك الحضور القوي والفاعل.
أين كان سيكون الرئيس الشهيد الصماد، أو البطل الملصي، أو المُخْلِص القوبري، أو الفاضل عيسى العَكدة الوصابي لو لم يسلكوا طريقَ الجهاد، ثم ينالوا درجة الشهادة العظيمة؟
مَنْ يَدري.. ربما في أحسن الأحوال.. سيشيب (الصماد) وهو أستاذ اللغة العربية في تلك المدرسة في سحار.. وسيتخرّج على يده أجيالٌ من أبناء قريته، حتى إذا بلغ من الكِبَرِ عِتِيّا لا يجد سوى الأوفياء من تلامذته مَن سيذكرون أن له فضلا عليهم ذات يوم، في تدريسهم وتربيتهم، فإذا قضى الموتُ حُكْمَه فيه، فمضى جيلان أو ثلاثة، فإنه سرعان ما يطويه الزمان بسواتره الكثيفة، ويُسْدِل عليه التاريخ حُجُبَه الغليظة، وينتهي ذكرُه إلى الأبد إهمالا ونسيانا وغيابًا، إلا بما قدّم من علمٍ نافعٍ ينتفِع به، أو ببعضِ ذكرٍ في أحفادِه، وذويه، وورثته، وفي وثائقهم الأسرية، وأملاكهم الشخصية.
لكن الصماد الذي لم نعُد نشاهده اليوم جِسمًا ماديا أمامنا هل غاب تماما وانتهى ؟.. أم لا يزال حاضرا وموجودا وشاهدا؟
الصماد.. لم ينتهِ.. ولم يغب.. بل ازداد حضورا.. ووجودا.. وتألقا.. وتأثيرا.
ألم يصِرْ ذلك الذي كان أستاذا لقريته في مادة علمية واحدة لعدد من السنين أستاذا للعالَمين، وللأمة الإسلامية، ولكل حر في هذا الوطن، وللأبد؟
لقد وهب اللهَ نفسَه الفانية، والتي تتوزّع مكوناتها الأساسية على السنين والشهور والساعات، فوهبه الله الخلود والحضور والوجود الذي يتجاوز الزمان والمكان؛ لنيله فضل الشهادة، وانطلاقه في هذه الطريق العجيبة.
الصماد الذي كان قبلُ مشروع قرية واحدة، ألا يَحضر الآن بقوة في وعي الأمة، وفي ثقافتها، وفي أدبياتها، وفي تاريخ رجالاتها الزاهر والمُشْرِق؟
هذا الحضور للشهيد في وعي الأمة وثقافتها ومسيرتها ومصادر معرفتها وأخلاقها وقيمها أكثر وجودا وأكثف حضورا وأحق تأثيرا من الملايين من أقران الشهيد وخلانه وأصدقائه الذين هم أحياء في ظاهر الأمر، لكنهم غائبون في واقعه، ومستقره..

الشهادة تأتي من حيث لا تحتسب
والشهادة كالرزق تأتي من حيث لا تحتسب.
يمرُّ عشاقُها من عن يمينك وعن شمالك، وبينا تبحثُ أنت عن طريق الجنة عشرات السنين، ثم تثَّاقل عن طريق الجهاد، إذا بك تجد هؤلاء يتقدَّمون إليها من حيثُ لا تحتسب، ثم تتأمل مليا في وجوههم، فتقول لنفسك: كيف ومتى وأين وأيان؟
البعض من الشهداء كان في طريقٍ معاكسٍ لخط الشهادة، فإذا به في سرعة خاطفة يهبِط مَظليا على طريقها المعبّد بالأسرار العجيبة، وحين لا يستوعب البعض هذه الحقيقة، ولا يُدرِكُ كنهَ هذا السر، لا يملك إلا أن يقول: (أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام:53].

لماذا فازوا وخسِرْنا؟
لماذا علِمُوا وكنا نحسِبُهم جُهالا؟ وجهِلْنا ونحن من ندّعي أننا العلماء والمثقفون والأكاديميون وأهل الرأي وذوو الحصافة؟
إن الحقيقة أننا صرعى أحلام بائسة صنعناها من وحي انهزامنا وظروفنا وفي رحلة فرارنا عن الحقيقة وعن الواقع، فصنعنا لنا واقعا مفترضا ليس هو الواقع الذي يجب أن يكون..

الشهيد بطل اللحظة التاريخية
إن الشهيدَ هو ذلك البطلُ التاريخيُّ الذي استطاع أن يُجيبَ على سؤالِ اللحظة التاريخية بصدقٍ وقوةٍ.. ولبّى الحاجة التاريخية لمجتمعه وأمته وزمنه والتي يجب أن يلبِّيَها كلُّ حُرٍّ وبَطَلٍ ومؤمنٍ..
عظمة الشهيد تجلّت في أنه تفاعل بصدقٍ وإخلاصٍ مع واقعِه الذي فرض عليه أن يَمضي في طريقِ الجهاد، وأن يَهدِم كلَّ تصوُّراته المُضادّة والبسيطة لثقافة الجهاد، فلم يَجِدْ الكوابحَ والمُعوِّقات التي تحُدُّ من أثرِ وفاعليةِ استجابتِه الحسنة لذلك التحدي.
أما أنت فلم تَسْتَطِعْ التَّخَفُّفَ مِنَ أعباءِ التصوُّرات الغليظة، التي كوّنتها العوامل والظروف والوضعيات المعاكِسة لضرورات اللحظة التاريخية الحاسمة.
بفعل عوادي الزمن، وتعقيدات الأوضاع الفكرية، والاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية، والمادية، تغبَّشت الصورة الدينية الجيدة لديك، واستَغْبَرَت وصدِئت مرآةُ المشروع الرسالي الذي كنتَ تحمِلُه، لهذا لم تكن تلك المرآة جديرةً بعكس الواقع كما هو، لتقرِّر أيَّ طريق يجب أن تسلُك، بل أعطتك واقعا مشوها، وغير حقيقي، وبناء عليه صنعت واقعا لا يوجد إلا في مخيلتك السقيمة، وأمنياتك الحَمقاء، ولهذا ظلت أطروحاتُك بعيدةً عن مقتضيات تلك اللحظة..

الشهادة فن الموت الأرقى
ذكر السيد القائد حفظه الله أن الشهادة تضحية واعية، وليست انتحارا، ولا هروبا ولا فرارا من واقع سيئ إلى أحلامٍ ميتافيزيقية، بل هي تضحية نتيجة وعي إيماني قويم، ودراسةِ تقديرٍ للحالة الواقعية، دراسة متجرِّدة عن العوائق والكوابح، التي ترسبت بفعل ما ذكرنا سابقا، مع أن منطلقات الشهيد ليست غريبة على ثقافة المجتمع، بل هي من مُسَلّمات ثقافة المجتمع التي لا يريد أن يؤمِنَ بها بشكل واقعي، على خلاف الشهيد والذي رتب تلك المسلمات في مُقدِّماته، ليكون هو بنفسه ومصيره النتيجة الطبيعية لها.
الجميع يُوقِنُ أن كلَّ كائنٍ سيموت، بيدَ أن الشهيد وحده هو الذي يختار طريقة موته بعناية، وفي المكانِ الأنسب، والزمان الأروع، والموقف الأحق، وإذا كان الشهداء من الأنبياء والأوصياء والأولياء علَّموا الناسَ كيف يعيشون وكيف يَحيون، فهم أيضا الذين علَّمونا كيف نموت، وفي أيِّ ساحةٍ، ولأيةِ قضية..
الشهادة هي فنُّ الموتِ الجيِّد، والممتاز، ولا يُجيدُ ذلك إلا مَنْ يستجيب لمقتضيات اللحظة التاريخية الحَرِجة، ليسجِّل حضوره الضروري فيها في جانب الحق، ويتقدم إلى الموت من أجله بوعيٍ عالٍ، وبإخلاصٍ منقطعِ النظير، وبحُبٍّ عميقٍ لله ولقائه..
إن الشهداء أناس استثنائيون تأهلوا بسعيهم وإخلاصهم وخلعهم لكل مظاهر وعوامل وظروف الحجب، فأشرقت الحكمة في واقعهم، وأزهرت نجومُ موفَّقيتهم، وكانوا هم لا غيرهم أبطال اللحظة التاريخية، والتي كانوا جزءًا أصيلا من مكوناتها، وهي اللحظة التي أعطت الزمان الخلود، والمجد، والسمو.
والشهادة قرار حكيم، وتضحية واعية، وطريقة اختيارية لنوع الموت الراقي، وللميدان الحق، ومن أجل القضية العادلة.
وإذا كان الموت كأسا كُتِبَ على كلِّ كائنٍ أن يستقيَ منه، فإن الشهادة موت بطريقة أخرى، إنها فنٌ ممتاز لطريقة الموت الواعي، واستثمار راق لنهاية محتومة على كل إنسان، وتوظيف ذكي لتحقيق آمال وأهداف الأمة، التي انطلق الشهيد للتضحية من أجلها.

الشهداء حاضرون لم يغيبوا
أكثرُ ما يُقْلِق الإنسان العادي هو فقدانُ حبيبِه، وغيابُه عنه، وهذا أمرٌ مؤسِف بالفعل في حالاتِ الموتِ العادية، وفي حالات الموت بالقتل الذي ليس في سبيل الله، ولكنه بالنسبة للقتيل في سبيل الله أمرٌ مختلف تماما؛ فقد بيَّن القرآنُ أن الشهيدَ لم يغِب، وأنه حيٌّ يُرزَق، وحاضِرٌ، شاهِدٌ، مطَّلع، يستبشر، ويفرح.
بل إن الشهيد حظي بمؤشرات الحضور، والشهادة المستمرة، وتميز موته الاستثنائي، فشرع الإسلام بعض التشريعات التي نلمح من ورائها تثبيت هذه الحقيقة، حقيقة حضور ووجود الشهيد وعدم غيابه.

لماذا لا يُغْسَل الشهيد ولا يكفَّن إلا بثيابه التي استشهد فيها!
يأتي الفقه الإسلامي ليؤكِّد أن هذا القتيل في سبيل الله شهيدٌ أي حاضر متحمِّل للشهادة، وأنه سيُدلي بشهادته أمام الحق في يوم الحق؛ فالفقه الإسلامي يأمرنا أن لا نُغسِّل الشهيد (وهو القتيل في المعركة)؛ لأنه لا يُغسَّل إلا ما كان نَجِسًا، لترتفع عنه النجاسة، أو حكمُها، والميّت هو مَنْ يُغَسَّل؛ لأن الميتة معدودة في النجاسات، وإلى النجاسة يتوجَّهُ وجوبُ التطهير والغسل، لكن الشهيد لم يَمُت، وليس بميتة، بل هو حاضرٌ، وحيٌّ، وطاهِر، ومَن كان حاضِرًا وطاهرا فلا يُغْسَل.
إن المنعَ من غسلِ الشهيد إمعانٌ في تأكيدِ حضورِه وحياته، وهو الذي يحسبه الكثيرُ أنه غادَرَ الحياةَ، أو أنه حلَّت به نجاسةُ الموت، والحقيقة أنه لا يزال حيا، والحيُّ لا ضرورةَ لغسله، وأنه اكتسب بالشهادة الطهارةَ التي ليس وراءها طهارة، ولا يجب غسلُ الطاهر، بل هذا الطاهر يحرُم غسلُه، إمعانا في تأكيد طهارته وحياته.
وأما أن يكفَّن في ثيابه التي قتِل فيها، وتُتْرَكَ آثارُ دمائه عليه، ليُبْعَث يوم القيامة كما هو حالُه حين مغادرته لتلك الحياة، فإن هذا أيضا تأكيدٌ أنه بالفعل حيٌّ حاضر، وأن الله أراد أن يَبْقَى الشهيدُ على تلك الحالة من آثار الدماء والجروح، وكل تلك المظاهر التي توحي بما كان عليه في الدنيا من موقف حق، وحضور في المعركة المقدسة؛ ليظهر يوم القيامة فيؤدي شهادتَه أيضا هناك قوليا، كما تحمَّلها في الدنيا عمليا، وإذا كان سيُدلي في المحكمة الإلهية الأخروية بشهادة المقال، فإن دماءه وجروحَه التي تشخَبُ دما، وتتضوّعُ مسكا، ستُدلي بشهادة الحال أيضا.
إنها شهادة الحال حين تُظافِر شهادة المقال، لتؤدِّي مفعولَها في الوجدان، وتتأكد الأحقية والمسؤولية، وتتبين عدالة القضية، التي انطلق فيها الشهيد ولقي الله بها.
ولا يبعد أن الشهيد سيظلُّ على تلك الحال حاضرا عند ربه، حيًّا خالدا، مرزوقا، مستبشِرا، مراقبا لما يجري وراءه من تطورات وأحداث، يبشِّر أهل موقفه بالأمن والسرور، ثم سيقدِّم شهادتَه أمام المولى تبارك وتعالى محدِّثا بكل التفاصيل.
لقد شدد القرآن الكريم أن الشهيد حيٌّ، فنهى عن القول بأن الشهداء أموات، وأكد أنهم أحياء وإنْ بدونِ شعورٍ حِسِّيٍّ منا بحياتهم، قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) [البقرة:154]، وفي الآيات الأخرى نهى الله تعالى عن حسبانِهم أمواتا، وأكَّد أنهم أحياء، بل عدَّد بعض مظاهر الحياة التي يَحيونها في مستقرِّهم الذي اختص الله به؛ إمعانا في تأكيد هذه الحقيقة التي يتجاهلها الكثير؛ قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:169- 171].
الآيات تبيّن:
– أن الشهيد لم يمُتْ، بل هو حاضِر وشاهد، والحضورُ هو معنىً من معاني الشهادة؛ وعليه فإن على أحبَّاء الشهيد وأقارِبِه أن لا يَحزنوا بسببِ فقدانه؛ لأنه في حقيقة الأمر حاضِرٌ شاهِدٌ لهم، مُطّلِعٌ على أخبارهم، ومراقِبٌ لكل أعمالِهم، التي تتَّصِلُ بقضيتِه العادلة التي قُتِل من أجلها، هذا من ناحية.
– من ناحية أُخْرَى بيَّنَتِ الآياتُ أنهم (أي الشهداء) عند ربهم، وهو أعلى وأجمل وأقوى وأفضل حضور، يمكن للمرء أن يتمناه، أو يرجوَه، وهو أيضا مظهرٌ آخَرُ يؤكِّدُ شهادةَ وحضورَ وعِلمَ هذا الذي قتِل في سبيل الله، فإذا كان قد قُتِل حين شهد الموقفَ الحق، فقد أكرمه الحق تبارك وتعالى بأن جعله حاضرا في حضرة الحق، وعلى مقرُبةٍ معنوية منه، ومن علمه، وآياته، واطلاعه.
– وبسبب قربهم من الله فإنه من المؤكّد أنه ستنالُهم بركة ذلك القرب، ومن مصاديق القرب أن ينال القريب من فواضل مُقرِّبِه، فالله هو الحي الذي لا يموت، لكنه ميز الشهيد بأن لا يموت كما يموت الآخرون، إلا ريثما ينتقل من هذه الدار إلى دار أخرى، والله على كل شيء شهيد، (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (النساء:33) وهو الذي يمنح هؤلاء المقرَّبين منه شيئا من تلك الشهادة على الأشياء، ولعلها الشهادة لمَن وراءهم من رفقاء جهادهم، والماضين على دربهم، حيث يمكنهم الاطلاعُ على مستجداتها، يدُلُّ على ذلك ما ذكرَتْه الآيةُ المباركة أنهم (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم).
-وأنهم (يُرْزَقون) يضيف اللهُ ذكرَ نوعٍ من مظاهر الحياة التي يحياها الشهداء، حيث يبيّن أن حضورهم حضور مبارك متجدِّد بتجدُّدِ أنواعِ الرزق وأوقاته وظروفه، تجري عليهم الأرزاق، ومن المعروف أن الأرزاق لا تجري إلا على من كان حيا، حاضرا، وشاهدا.
-وأنهم (فرحين بما آتاهم الله من فضله)، وهنا جاءت (فرحين) حالا من واو الجماعة في (يرزقون)، والحالُ مبيِّنة لحال وهيئة صاحبها، أي أنهم تجري عليهم الأرزاق حال كونهم فرحين، وأن يرزق المرء وهو في حالة الفرح دائما فتلك هي قمَّةُ الحياةِ المطمئنَّة، وأوفاها، وأعظمُها، وأجملُها، وأصدقُها.
-وأنهم (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم)، حيث أثبت الله لهم خاصية الاطلاع والنظر إلى ما وراءهم في الدنيا، فهم يعرفون ما الذي يحدث وراءهم، ويستبشرون، والاستبشار هو حصول البشارة لهم، أي أنهم فرِحون بانتصارهم الانتصار الشخصي، وهو الشهادة في سبيل الله، وهم أيضا مسرورون بحسن طريقة المجاهدين من خلفهم، وبأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
– ومعروف – نحويا – أن جملة (أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) بدلٌ من (الذين) الاسم الموصول في قوله: (الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم)، فكأنه قال: ويستبشرون بأن لا خوف على أولئك المجاهدين الذين خلَّفوهم وراءَهم على نفس الخط وذات المسار، ولا هم يحزنون، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهذا يبين أنهم في أقوى حياة، وأقربها، حيث يطَّلِعون على ما بَعُد على كثير من أبناء الدنيا، فها نحن في الدنيا ممَّن نَغيب عن المعركة وعن المجاهدين، لا نعلم بكثيرٍ من المعارك، ولا بتفاصيلها، ولا بمآلاتها، لكن هؤلاء الشهداء الأحياء يطَّلعون على مُجْرَيات الأمورِ وتطوُّراتها.
وربما فَتَحت لهم يدُ العنايةِ الإلهية قنواتٍ مباشرةً يشاهدون من خلالها كلَّ تفاصيلِ ما خلَّفوه وراءهم، وهل ذلك إلا الحضور القوي والشهادة الفاعلة؟!
-كما بيَّنتِ السنةُ النبوية الصحيحة أن الشهيد أيضا حاضر، وقريبٌ من الحق تبارك وتعالى، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه الإمام زيدُ بنُ علي عن آبائه عليهم السلام في فضل الشهيد ودرجاته: (أنه ليس أحدٌ أقرب منزلا من عرش الرحمن من الشهداء)، وهذا أيضا يعزِّز ويؤكِّد حضورَ هؤلاءِ الكرامِ الحضورَ المعنويَّ لله الحق تبارك وتعالى، الحضور الذي سينعكس على نشاطهم، وأدائهم، فهم قريبون منه، مطَّلعون على تفاصيلِ ما خلَّفوه من جهادٍ ومجاهدين وأعداء، مراقبون لكل شيء.
الشهداء يدلون بشهادتهم في محكمة العدل الإلهية
الشهيدُ هو الذي حضر الموقف الحق حضور التضحية، وتحمَّلَ الشهادة في الدنيا بشكلها الواقعي، وهو الذي سيُدْلي بشهادته شهادة الحق والموقف في محكمة العدل الإلهية، يوم يقضي الله بين عباده المختلفين؛ يقول الله تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الزمر:69].
الشهادة معراج البسطاء إلى سماوات الفضل
إن الشهادة معراجُ الناس العاديين إلى سماوات الفضل، وهي جِسرُ البسطاء من الناس الذي يَصِل بهم إلى جوار الله الكريم رب السماوات والأرض، وإن فضل الله ونعمته اللذين يستبشِرُ بهما الشهداءُ هو أن الله هيَّأ للناس العاديين هذا الطريقَ الذي يصِلُ بهم إلى مقاماتٍ عالية تُجاورُ مقاماتِ الأنبياءِ والصديقين.
لقد ذكر الله في الكتاب العزيز – وهو يتحدث عن الجهاد في الله حق الجهاد – أنه جعل من هذه الأمة شهداءَ على الناس، مِثلَ ما جعل الرسول شهيدا عليهم؛ ذلك أن الجهادَ هو أسرع الطرقِ الموصلةِ إلى تلك المقامات العظيمة عند الله، والتأهل لمنزلة الشهادة؛ يقول الله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج:78].
هذه الآيةُ تبيِّن أن هناك شهداءَ على الناس، جاء اللهُ بهم في سياقِ الجهاد في الله، ويمكن إطلاقُهم على أعلامِ الهدى من أهل بيتِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحمَّلوه من جهادٍ، وعناءٍ، وصبرٍ، ويقين، وإرشاد، كما يُمْكِن إطلاقُهم على أولئك الذين وهبوا أرواحهم في سبيل الله، وشهدوا على عدالة قضيتهم، وأحقيتها بدمائهم، وجروحهم.
وبهذا يتبيَّن أن (شهداء) في قوله تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:140]، هم شهداء المسؤولية، وشهداء الموقف الحق، والحضور الفاعل، الذين قتِلوا في سبيل الله، بدلالة اتخاذ الله لهم، واختياره إياهم، وكونِها جاءت في سياق ذكرِ الآلام والعناء الذي طال المسلمين في غزوة أحد، وفتحِ آفاق الآمال لديهم، بعد تلك الوقعة الأليمة.
قال فقيه القرآن السيد العلامة بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه: “وقوله تعالى: (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) بما ينالون من فضل الجهاد في سبيل الله، وسبقهم في ذلك لغيرهم حتى يستحقوا أن يجعلهم الله شهداء على الناس، ولعل هذا هو المراد في قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ … وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) …”، إلى أن قال رضوان الله عليه: “ولعل الذين قتلوا في سبيل الله سيكونون يوم القيامة شهداء على أعداء الله بما شاهدوا، ولأنصار دين الله بما شهدوه منهم، ولعلّهم سُمُّوا شهداءَ لذلك؛ فتفسيرُ القرآن بالمعنى الأصلي المُعَبَّر عنه في القرآن أظهر، كقوله تعالى: ({فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً) [النساء:41] ..”.
وفي قوله تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69)، ذكر رضوان الله عليه أنه: “يُحْتمَل أنهم الشهداء على الناس، وقد مرَّ ذكرهم عند قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ..)، وهذا أظهر، ويحتمل: أنهم الذين قتلوا في سبيل الله، ولا يبعد أن سُمُّوا شهداء؛ لأنهم يشهدون على الناس، فيكون المعنى واحدا”.
الشهادة في اللغات والثقافات والأديان الأخرى
الشهادة أمرٌ معروفٌ لدى كثيرِ من الثقافات واللغات والأديان الأخرى، فالشهيد في اليهودية والنصرانية هو ذلك الشخصُ الذي يُعذَّب أو يُقْتَل في سبيل دينه، أو من أجل معتَقَدٍ من معتقداته، وتأخذ إلى حدٍّ كبير معنى التضحية والفداء.
ففي اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، الشهادة (Martyrdom)، والشهيد هو (Martyr)، ويفسَّر في معاجم اللغة الإنجليزية بأنه الشخص الذي يُضَحِّي بنفسه، فيُقْتَل أو يُعَذَّب من أجل معتقداته الدينية، أو الإنسانية، أو القومية.
وتزعُم بعضُ تلك المعاجم أن أصل هذه الكلمة (Marter) مأخوذة من اللاتينية، والتي تعني الشاهد (the witness)، والشاهد هو الحاضر، الذي يَتَحَمَّلُ مضمونَ الشهادة التي سيدلي بها لاحقا؛ وهو إن صح فإنه ربما كان ذلك؛ لكون المسألة من مسائل الوحي الإلهي على أنبيائه ورسله، وأثرت الوضع الديني على الوضع اللغوي في كلا اللغتين.
وعلى الرغم من التشابهِ الكبير بين معنى (الشهيد) في العربية والإنجليزية مثلاً إلا أن بعضَ المفكرين يُجادل بأن للشهيد في اللغة العربية وفي الدين الإسلامي خصوصيةً معينة، لا توجد في تلك اللغة وتلك الثقافة، ولهذا يوجب هذا البعضُ على المُترجمين للقرآن الكريم أو النصوص الإسلامية من العربية إلى غيرها من اللغات أن ينقُلوا كلمة (شهيد) إلى اللغة المترجَم إليها كما هي، أي (شهيد)، و(شهادة).
إن الفرق بين المفهومين هو أن الشهيد يرتبط في تلك الثقافات واللغات غير العربية والإسلامية بتراجيديا مُفْرِطة، ويأتي دائما في سياق الحزن، والتضحية، والفداء، بينما ترد الشهادة في الإسلام في هذا السياق، لكن مع مراعاة أن الشهادة أمر مُرَحَّبٌ به، ويسألون الله دائما أن يرزقهم الشهادة؛ ولهذا كثيرا ما تَقَدَّم الشهداءُ في الإسلام وتاريخه إلى الموت وهم يبتسمون له، ويضحكون للقياه.
بل لا يزال التاريخ يدوِّي بتلك الكلمة التي أطلقها الإمام علي عليه السلام ساعة ضرَبَه ابنُ ملجم في مسجد الكوفة عند صلاة الفجر في رمضان سنة40هـ، وهي قوله: (فزْتُ وربِّ الكعبة)، ومثله الإمام الحسين عليه السلام، إذ قال عند استشهاده سنة 61هـ: (هيهات منا الذلة)، و (إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني)، وكذلك الإمام زيد لحظة وصول السهم إلى جبينه الأغر سنة122هـ، قال: (الشهادة الشهادة الحمدلله الذي رزقنيها).
دماء الشهداء تعيد نفخ الروح في هذه الأمة
“أكبر معاجز الشهادة هي إيصالُ الحياة والدماء إلى الأجزاءِ الميِّتة من ذلك المجتمع من أجل ولادةِ جيلٍ جديدٍ، وإيمانٍ جديد”.
هكذا قال المفكِّر الإسلامي الشهيد الدكتور علي شريعتي.
في تاريخنا المعاصر، وبالتحديد عقب استشهاد الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي، رضوان الله عليه، جاء أحدُ المجاهدين إلى القائد والسابق بالخيرات السيد عبدالملك الحوثي ليُثْنِيَه عن مواصلة مسيرة الجهاد والقتال في سبيل الله، وكان ذلك المجاهد قد أُحْبِطَ في تلك الظروف، التي بَدَت وكأنَّ كلَّ شيء من حركة الشهيد القائد قد انتهى.
لقد قال للسيد القائد: أرأيتَ كيف خذل الناسُ أخاك الشهيد حسين بدر الدين، وهو من أعظم القادة، وله شهرة أكثر من شهرتك؟ فكيف ترجو منهم أن ينصروك وأنت صغيرُ السن؟ ولسْتَ في مقام الشهيد أخيك؟.
ردَّ عليه عَلَمُ هذه الأمة رد الواثق بما عند الله، والعالم بسننه الإلهية، قائلا: “إنني أثق في الله بأن يُحْيِيَ من دماء الشهيد القائد ومن دماء رفقائه الأبرار أحرارًا آخَرين، يرفعون لواءَ هذه المسيرة، فدماءُ الشهداء هي وقود لإحياء الأمة”، غير أن ذلك المجاهد كان قد وصل إلى حالةٍ خطيرة من الإحباط، لهذا قرر التواري خلف مشهد الجهاد.
ترجل المجاهدُ المحبَط عن قطار الحرية والكرامة برهة من الوقت، ومضى السيِّدُ القائد حفظه الله في مشروعه، فشنَّتِ السلطة الظالمة الحربَ الثانية، ويسَّر الله بمجاهدين، واستُشْهِد فيها العشرات، وكان في ذلك رسالة لذلك المحبط، تقول: من أين أتى هؤلاء المجاهدون والشهداء؟؟
ثم في الحرب الثالثة، تكاثرت أعداد المجاهدين الصادقين، وتغيرت بعض المعادلات، وأصبح المجاهدون يحققون الانتصارات، ويغنمون الغنائم، وإذا بالسيد القائد يتَّصل لذلك المجاهد ويُخبِرُه بتحسُّنِ الأوضاع، وتغيُّرِها عما كانت عليه، وأن ذلك هو تحقُّقٌ لوعد الله بأن لا تذهب دماءُ الشهداء هدرا.
ثم مضت المسيرة قُدماً قُدماً، وإذا بها اليوم حديث العالم..
إن لدماء الشهداء أثرا عجيبا وكريما وعظيما ..
في صدْر الإسلام، في عهد الأمويين خيَّم الظلمُ القبيحُ على الأمة الإسلامية جمعاء، وازدادت نسبة الانحراف عن الإسلام إلى درجةٍ لا تمنح لأي مسلم حق السكوت، ونفَّذَتْ الجاهليةُ ثورةً مضادة على ثورة الإسلام بنسبةٍ خطيرةٍ، لقد آذَنَت بوصول أمثال يزيد إلى سُدَّة خلافة الإسلام، وولاية أمره.
حينها كانت الأمة بحاجة إلى أن تنتَصِر لدينها على هذا الوضع المنحرِف عن الإسلام، وكان هناك في ذلك العالَم رجلٌ عظيم، هو ابنُ رسول الله، وسيدُ شباب أهل الجنة، لكنه لم يكن لديه عدة وعتاد بما يكفي للنصر مادِّيًّا على أولئك، ولكن ليس بالضرورة أن يكون النصر بأدواتِ الغلبة المادية؛ إذ هناك أدوات معنوية أخرى، يمكن الانتصار بها على مرِّ الزمن.
كانت الأمة ودين الإسلام بحاجة إلى (شهادة) بحجم شهادة الإمام الحسين عليه السلام، لإيقاع صدمة عنيفة في وعي الأمة، وثقافتها، ولإدانة الأوضاع الدينية والفكرية والثقافية المنحرفة، وهتك أقنعة الزيف والخداع والمكر والظلم.
شهادة تحيي موات المسلمين، وتبعث فيهم حياة الحرية والكرامة والعزة من جديد..
كان الإمام الحسين (سيد الشهداء) بين خيارِ السكوت والبيعة ليزيد، والذي يعني الإقرارَ بأوضاعٍ غير إسلامية، ويعني إضفاءَ الشرعية الدينية من مرجعية الأمة على حكمٍ منحرفٍ ووضعٍ فاسد ومُنقلِب على الإسلام، أو الخيار الثاني، وهو الثورة، وإيقاد شعلة الحرية، وإعادة الضوء في مصابيح الدين، الذي بات طقوسا جامدة لا تعكس الدين الحق، وأشكالا قشورية اختزلت الدين واجتزأته كمنظومة خاوية من دون روح، وجسدٍ أثخنه الأعداء بالجراح والآلام.
وهناك جاءت (شهادة) الإمام الحسين عليه السلام، فكانت ضمانًا لإعادة بعث الحياة الكريمة في الأمة بكاملها، وكانت أساسا لتجديد عقيدة، أوشك غبار الانحراف على دفنها، وإهالة التراب عليها.
وهنا تكمن عظمة الشهادة وعظمة أصحابها أنهم لا يكتفون باستثمار موتهم في سبيل الله، وحيازة مقام الخلود، والحياة، والحضور، بل إنهم أيضا يبعثون ذلك الحضور في قضاياهم التي انطلقوا من أجلها..
علام يشهد الشهداء وبم؟
وبقدر ما يتجسَّد الحضور الكامل والحقيقي في الشهيد؛ ولهذا يفوز بهذا اللقب العظيم (الشهادة)، فإنه تتجسّد في سعيه وآثاره تكاملية الشهادة أيضا.
شهادة الشهيد في آثارها ونتائجها وحضورها تتحرك في أكثر من اتجاه، وتلبي أكثر من حاجة، وتقيم أكثر من مجال، وتفضح أكثر من ممارسة.
يشهد الشهيد على عدالة القضية التي قتل في سبيلها، وبالتالي فهي شهادة لكل من يمضي خلفه أنهم في الطريق الصحيح والآمن والمرضي لله تعالى، وهي مؤشر يعطي ضمان الوصول إلى رضوان الله تعالى..
وتُؤتي الشهادة – التي هي الحضور والخلود – خلودا للقضية، واستمرارا لها، وتنفخ فيها روح البقاء، والصمود، والثبات؛ ولهذا نحن على يقين أن قضيتنا كيمنيين مظلومين قضيةٌ منصورة، وثابتة، وخالدة، ليس لأن القضية قضيةُ حق فقط، ولكن لأنها سُقِيَت بماء الخلود الأحمر، ونفخ فيها من أرواح الأبطال الأحرار الذين تسابقوا على الفوز بالشهادة حولها.
ويشهد الشهيدُ أيضا على قوة الحق في مواجهة الباطل، ونحن في عصرنا هذا رأينا آيات الله ووعوده للشهداء تتحقق أمام ناظرينا، فهذا دم الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه، ودماء أصحابه المستضعفين، وقد تكالب عليهم الطغيان والخذلان، بينما كان الطغاة يضعون رجلا على رجل مطمئنين، إذا بمكر التاريخ وحيوية الشهادة يتجليان ليظهر بعد مرور سنين معدودة أن معظم المجرمين الذين نفّذوا تلك المجزرة قضوا قصاصا على ما ارتكبوا، وأن صيحات الحق التي كانت تملأ أرجاء مران باتت مسموعة في مُختلَف مناطق اليمن، بل والإقليم، والعالم.
وما من شكٍّ فإن الشهداء اليمنيين مثلما شهدوا على قوة الحق، فإنهم يشهدون على ضعف وهوان وبطلان موقف المعتدين، وأنهم يمضون في طريق الشيطان.
في المحكمة الإلهية الأخروية يوم تُنصَب الموازين، وتُعقَد جلساتُ المحاكمات، ويأتي فريقُ الادِّعاء، وهم الشعب اليمني، ليرفع دعواه ضد فريق المُتَّهَمين، وهم قادة هذا العدوان، وأحزابه، ومُكَوِّناته، (ترامب)، و(نتنياهو)، و(سلمان)، وابنه (المعتوه)، و(ابن زايد)، وعشرات الآلاف من فصيلة (خَدّام خَدَّام الأمريكي) من المرتزِقة، وعبَدة الريال السعودي، والدولار الأمريكي، ويأتي ليشهد في هذا البعد فريقان من الشهود، هم شهداء المسؤولية، وهم شهداء الجبهات، وشهداء المظلومية.
شهداء المظلومية – كما يذكر السيد القائد سلام الله عليه – هم أولئك المستضعفون الذين قضَوا شهداء ظلما وبغيا، ومنهم أولئك العجَزة، الطاعنون في السن، والنساء، والأطفال، الذين قتلهم العدوان وهم آمنون في بيوتهم، ومزارعهم، ومساجدهم، ومدارسهم، ومشافيهم، وطرقاتهم، هؤلاء سيشهدون على أن هذا عدوانٌ ظالمٌ باغ، وأنه لم يَدَّخر وسعا في استهداف المدنيين، والمساكين، والأبرياء، والمسالمين.
وما أسوأ الموقف الذي يقف فيه هذا الطابور الطويل، الذي يبدأ من (ترامب) مرورا بكبار الطغاة والمجرمين إلى رؤساء الأنظمة، والأحزاب، والجماعات، وشيوخ الدين الضالين، وأهل اللحى المزيفين، فيوضعون في قفصِ اتهامٍ واحدٍ، ويأتي الآلاف من أطفال اليمن، وهم بثيابهم الملطَّخة بالدماء البريئة، ليقولوا: يا رب سل هؤلاء لم قتلونا بينما كنا نغص في نومٍ عميق، آمنين، مطمئنين؟!.
أما شهداء المسؤولية فإنهم يشهدون على قوة الحق، وبطلان الباطل، وعلى إجرام المجرمين، وعدالة القضية، وأحقية الموقف، وواحدية المعركة، ودوامها، ويشهدون لمن خلفهم أنهم ماضون في الطريق الحق، وهم حاضرون في مقام الإكرام والتعظيم عند الله عز وجل.. إلخ.
وعلى هذا يظهر أن شهيد المظلومية أقلُّ شهادة، وبالتالي أقل فضلا وأجرا ومنزلة من شهيد المسؤولية؛ لأنه لا يَشْهَدُ إلا في هذا البُعد، بُعْدِ الظلم والبغي الذي وقع عليه من قبل تحالف المجرمين في هذا العالم.
لكنَّ شهيدَ المسؤولية سيجد نفسه شاهدا على جميع أبعاد القضية، على موقفه الحق، وعلى عدالة القضية، وواحديتها في اليمن وفلسطين، وفي حسين مران، وحسين كربلاء.
ويشهدون على بطلان اعتقاد وشعور بقية أبناء الشعب اليمني والأمة العربية والإسلامية بعدم إمكانية مواجهة القوى العظمى.
ويشهدون على سقوط معاذير كل القاعدين وأصحاب التبريرات وأدعياء الحياد، وأنه لا عُذْرَ لأي أحد ممن لديه القدرة على حمل السلاح والقتال والجهاد في سبيل الله لهم أولاد ولهم أموال ولهم بيوت وزوجات وبنات ومشاغل وفقر وأنهم بشر.
ويشهدون على النصر الاستراتيجي القادم؛ كونهم مضوا على خط الإيمان الحقيقي، وقد قال الله تعالى: (وكان حقا علنيا نصر المؤمنين).
ويشهدون على أن المستقبل لمن يتحرَّك ويُضحِّي ويُواجِه قوى الطاغوت والاستكبار حتى تجري عليهم سنة الاستبدال الإلهي في قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)، (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
سيشهد الغني من الشهداء الذي ترك ماله لله وانطلق معه شهيدا، أن الغنى ليس عذرا للأغنياء منا في ترك الجهاد، ويشهد الفقير أن الفقر كذلك ليس عذرا كافيا لترك الجهاد، ويشهد الكبير على نوعه، وأهل عمره، كما يشهد الشاب على أهل سنه، ويشهد الجميع على الجميع.
وبهذا يتبين:
-أن دماء الشهداء هي أمطارٌ غزيرة البركة، وغيوثٌ عظيمة الآثار، يُحْيِي اللهُ بها مُوَاتَ الأمة، ويخلُق منها أمما على أيديهم يَهْزِم الله الباطل، ويكسر جبروته، ويقيم دولة الحق، وإنصاف المظلومين.
-وأنه إذا كان شهداء المظلومية سيشهدون على فظاعة ظلم الظالمين، وعلى شدة مظلوميتهم، فإن شهداء المسؤولية سيشهدون على كلِّ ما يتعلق بهم، وفي مختلف الأبعاد، وفي شتى المجالات، يشهدون على قوة موقفهم، وبطلان موقف المعتدين، وعلى حضور قضيتهم، وحياتها، واستمرارها، ويشهدون لمن خلفهم بصحة طريقتهم، وكل يشهد على فئته، المبادر منهم يشهدون له بالنجاة، والمقصر، بأن لا عذر لأي واحد منهم يتنصل عن طريقهم، إلى غير ذلك من المِيزات والتفضيلات التي يَحْصُلون عليها.


في الخميس 24 ديسمبر-كانون الأول 2020 07:46:54 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=3216