|
من الظواهر المقروءة في التاريخ العربي ما عبر عنه المؤرخ إبراهيم الصابئ حين سئل وهو مكبٌ على كتابة تأريخ بني بويه عما يفعل فقال: أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها.
ولعل الأزمة السياسية الوطنية الراهنة قد كشفت تنامي تلك الظاهرة في الذاكرة الثقافية العربية، وتلك في ذاتها مصيبة بيد أن المصيبة الأعظم أن تسمع باطلاً وكذباً ملفقاً من أولئك القائلين بالتفسير المادي الجدلي للتأريخ.. يقول الدكتور محمد عابد الجابري: لقد مارس ماركس الحياة الاجتماعية في عصره بكل أبعادها ممارسة نضالية، فمكنّه ذلك من إعطاء الحلم الألماني معناه المشخص من تحليل بنية المجتمع الرأسمالي في عصره واكتشاف قوانين تركيبها وقوانين تطورها، أي اكتسب وعياً صحيحاً مكّنه من النظر إلى التاريخ نظرة علمية ومثل ذلك فعل ابن خلدون قبله بقرون، لقد عاش معترك الحياة في عصره، فتعرف على دقائق مجتمعه واكتشف قوانين تركيبه وتطوره، بالقدر الذي كان يسمح به تقدم المعرفة البشرية آنئذٍ – فمكنه ذلك من اكتساب رؤية جديدة للتأريخ الإسلامي، رؤية علمية أصيلة، قوامها أنّ للعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الروايات والآثار.
والحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية، فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها، بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونها” ويقول الجابري: “إن المبدأ المفسر للرؤية الخلدونية العلمية الأصيلة للتأريخ البشري، هو أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش” لقد نظر ابن خلدون إلى التأريخ لا بوصفه أحداثاً ووقائع تتوالى عبر الزمن، دون قانون يضبطها وأسباب تحركها، بل نظر إلى التأريخ جملة على أنه تأريخ صراع تتحكم فيه وتوجهه قوانين موضوعية، اجتماعية وسياسية واقتصادية وطبيعية سماها “بطبائع العمران”، ولذلك أكد بقوة أن صاحب فن التأريخ يحتاج إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأمصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من خلاف، وتعليل المتفق منهما والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث واقفاً على أصول كل خبر، وحينئذٍ يعرض الخبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول«.
هذا التصور للتأريخ كمعرفة علمية وكصراع من أجل السلطة بين فئات اجتماعية تختلف باختلاف “نحلتها في المعاش” أي باختلاف طريقة إنتاجها وأسلوب عيشها هو الطريق الأمثل والأصوب في إعادة كتابة التأريخ ووعينا به وطريقة تعاطينا المعرفي معه.
ذلك الاستهلال قادتنا اليه الأباطيل المنمقة والأكاذيب الملفقة التي تسعى إلى التضليل والابتعاد عن الحقائق والتي تملأ الآن أوراق الصحف وتنشر في المواقع وتعج بها المقايل والفضائيات .
لن أقف مدافعا عن تاريخ المرحلة التي يسعى العدوان وأدواته من أبناء اليمن على أحداث الانحراف الكامل في أشكالها ومضامينها لأن منهجية المادية التاريخية حين تكتب تاريخ اليمن الحديث ستقول الحقيقة وفق بُعدها العام الذي فسره الجابري بقوله إنه تحليل المجتمعات على أساس أن حركة التأريخ والتطور هي نتيجة صراع بين الطبقات على أساس أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي الناس، وأن الوعي بدوره يؤثر ويغير الوجود الاجتماعي.
وبعدها الخاص في النتائج التي يسفر عنها التحليل المذكور والتي قد تختلف – بل يجب أن تختلف – باختلاف نوعية المجتمعات ومراحل التطور، فالخاص هو الذي يحدد نوعية الطبقات المتصارعة وأهمية الدور الذي يلعبه الصراع الطبقي نفسه سواء على المستوى الاجتماعي – الاقتصادي أو على المستوى الفكري الايديولوجي .
وفي ظني أن العاطفة التي تحاول تضليل تاريخ المرحلة لا يمكنها الصمود كثيراً بيد أنها تؤصل لظاهرة كنا نتمنى أن نتجاوزها انتصاراً لكل ما هو موضوعي وعلمي ويحمل رؤية فلسفية واعية قادرة على الحركة ببعديها الميكانيكي والتصادمي الجدلي، في بعدها الناتج عنها، ذلك أننا نعيش مرحلة دقيقة من التأريخ وهي مرحلة تحول مصحوبة باهتزاز واضطراب، وقد لا نستطيع تثبيت كياننا وبناء مستقبلنا إلا إذا عالجنا العلاقة بين المدخل الثقافي التقليدي وثقافة العصر وفق رؤية أكثر فاعلية وعقلانية تبعد كثيراً عن الانفعالية وأساسها نظرة جدلية واعية تطبع المرحلة بطابعها العقلاني والعلمي بعيداً عما دأبنا عليه وصار اعتياداً في حياتنا.
الذين يظنون الاشتغال على قضايا الوطن ترفاً أو وسيلة لتحقيق أغراض آنية وذاتية لاشك أنهم وقعوا في الخطأ ذلك أنّ نقد الظواهر لا يعني أكثر من تصحيح مسارها وتعديله لنتمكن من امتلاك المسار الأصوب، وكل الذي قيل أو كُتِبَ عن هذه المرحلة لايزال قاصراً وعاجزاً عن النفاذ إلى جوهر الحقيقة لأنه كُتِبَ تقرباً أو تزلفاً أو نفاقاً وأقول قاصراً وعاجزاً لأن كماله لن يكون إلا بمنهجية علمية ورؤية فلسفية تستطيع قراءة المرحلة قراءة واعية وموضوعية تفرز الإيجابي وفق مبرراته الموضوعية والسلبي وفق مبرراته الموضوعية وضروراته العقدية والثقافية والاجتماعية التي عرفتها المرحلة وتبازغت تحت سمائها في سياقها العام والتاريخي.
هناك من يرى من المفكرين أن الناس عند الأزمات والحروب تهرب إلى نقاط مضيئة من التاريخ وحين يحتفي الناس بالرموز إنما يحتمون بهم من غوائل الزمن وسوء المنقلب ولكن مثل ذلك لا يجعل من الحدث مادة للتضليل وتزيف الحقائق لأنه يترك أثرا من الضبابية تجعل المستقبل غير واضح المعالم فالتاريخ دون الوعي بحقائقه الموضوعية يفقدنا السيطرة في التحكم على مقاليد المستقبل ويجعل مستقبل الأجيال القادمة تدور في ذات دائرة الصراع دون قدرتها على تجاوزها وهو أمر غير محمود في مستقبل الأمة ذلك أننا نجني اليوم في حاضرنا ثمار تزييف التاريخ وبسببه أصبحت الأمة على الحال الذي نشهده اليوم في العراق في سوريا في اليمن في ليبيا , فالوعي بالتاريخ يجعلنا نمتلك مقاليد المستقبل والوعي بالتاريخ لا يعني ممارسة التضليل وتزييف حقائقه بل يعني وصف الحدث كما هو في واقعه .
ما يقوم به اليوم مرتزقة العدوان من تزييف وتضليل للتاريخ وللأحداث مدمر وقاتل ولذا ينبغي صناعة التاريخ حتى يعي الجيل القادم الزمن ويتمكن من تفكيك عراه ليتجاوز بؤر عدم الاستقرار وفق رؤى علمية منهجية ووفق منهجية الجدلية التاريخية فهي قادرة على وضع الأمور في مكانها الطبيعي وفق قياسات علمية وأخلاقية وقيمية .
في الجمعة 25 ديسمبر-كانون الأول 2020 07:31:02 م