الشهادةُ في سبيل الله حالةٌ استثنائية في عالم الموت والحياة، لأن الشهادة لا علاقة لها بالموت والفناء فهي متصلة بالحياة الأبدية والخلود الذي لا انقطاع فيه للحياة أبداً فهي عبارة عن رحلة حياة يبدأها الشهداء العظماء من هنا من الدنيا إلى عالم الحياة الأبدية في الآخرة، والشيء المثير للدهشة أن حياة الشهداء ليست لمجرد الحياة فقط أو تجاوز الموت بل إنهم حصلوا على الفوز الكبير والعظيم برضوان الله وجنته وربحوا الدنيا والآخرة ولا يوجد في قاموس مشوار حياتهم أي معنى للخسارة على الإطلاق، فكل لحظة من حياتهم ربح وكل موقف سطروه مع الله وفي سبيله قادهم إلى موقع العظمة والشهادة والحياة والخلود والفوز والرضوان.
لعظمة الشهداء وحب الله لهم منحهم ما لم يمنحه لأحد سواهم حين قال تعالى عنهم (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) وعندما نتأمل في مضامين ومعاني قول الله تعالى (عند ربهم ) سنجد أن الشهداء وصلوا إلى مقام تفوقوا فيه على الكثير من عباد الله ونافسوا فيه الملائكة والأنبياء، فعندما يخبرنا الله عن مكانهم بعد الرحيل من الدنيا نجد انه قال عند ربهم ولم يقل في مكان آخر، اضف إلى ذلك انه تعالى لم يقل عند ربهم فقط وانتهى الأمر بل قال أحياء عند ربهم، ليس هذا فحسب بل قال يرزقون وكذلك يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم لعظمة ما هم فيه من نعيم ورضوان وخلود دائم لا يعرف الموت.
قال الله تعالى :- { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.
(أحياء) هذه أولى العطايا الربانية التي منحهم الله إياها جزاء لبذلهم أنفسهم ودماءهم في سبيله، و(عند ربهم) هذا أيضاً مقام رفيع وعظيم اختصهم به حين قال عند ربهم بعد أن قال أحياء وهل هناك شيء أسمى وارقى وارفع من أن يحظى الإنسان المؤمن بمثل هذا المقام يكون حياً عند ربه؟ لا يوجد ليس هذا فحسب بل أضاف سبحانه وتعالى بعد أن قال أحياء عند ربهم أضاف (يرزقون) أحياء وعند ربهم وكذلك يرزقون ومعروف ما هو الرزق ومعروف من الذي يرزق؟، يرزقون دليل على جانب الرعاية الربانية لهم في مجال الجانب المادي، ولم ينته الأمر عند يرزقون فقط بل قال الله عن الشهداء أيضاً (فرحين) بما آتاهم الله من فضله إلى جانب الحياة والرزق نفوسهم مغمورة بالفرحة والسرور بما يؤتيهم الله من فضله وكرمه انهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وهذا دليل قاطع لمن يشكك في حياتهم انهم يرزقون وكذلك يستبشرون، الجانب النفسي والمعنوي عندهم قائم على الاستبشار بمن خلفهم من أمتهم وأهاليهم وذويهم والمجاهدين في سبيل الله ويطمئنون من خلفهم انه لا يوجد في عالم الشهداء أي مكان للخوف والحزن والقلق خصوصا من مضى على نفس السراط الذي ساروا عليه فقادهم إلى هذا المقام الرفيع والعظيم.
ومن خلال هذه الآيات العظيمة نصل إلى تعريف إلهي شامل عن عالم الشهداء العظماء وما فيه من حياة ورزق وفرح واستبشار وربح وفوق ذلك أنهم (عند ربهم)، غادروا هذه الدنيا بعد أن سطروا أروع الملاحم البطولية وجسدوا تعاليم الإسلام وثقافة القرآن الكريم في واقعهم قولاً وعملاً، غادروا كوكب الأرض إلى عالم الخلود والشهادة إلى عند ربهم وهذه لوحدها تكفي، أما عندما يترافق مع عند ربهم الحياة الأبدية والرزق والفرح والاستبشار فهذه مقامات وعطايا إلهية كبيرة وعظيمة اختصهم الله بها تليق بمقامهم وتضحياتهم وعطائهم ويكفينا أنهم عند ربهم.