|
الكثير من الملفات ستحكم العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة في الفترة القادمة، وأبرزها موضوع التدخلات الأميركية في الشؤون الداخلية الروسية وملف القدرات النووية للطرفين، فهل انطلقت المواجهة بين العملاقين بعد تسلم بايدن؟
كان يمكن استنتاج عدم رضى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الرئيس الأميركي جو بايدن، أو على الأقل عدم الارتياح له، وذلك حين تأخرت الدوائر الرسمية الروسية في تهنئة الأخير بعد فوزه الكاسح على دونالد ترامب، وبالرغم حينها من وضوح النتائج باكراً، ومن مسارعة أغلب قادة الدول على تهنئة الفائز، فإن الرئيس بوتين، الذي كان آخر رئيس دولة يقدم هذه التهنئة، كان يعلم ماذا ينتظر العلاقة الروسية - الأميركية من حساسية، مع وصول أحد أكثر صقور الديمقراطيين تشدداً (الرئيس بايدن) إلى البيت الأبيض.
طبعاً، للرئيس بوتين في التأخر بالتهنئة مبرراته (الديبلوماسية)، حيث كان ينتظر صدور النتائج رسمياً وتصديق الكونغرس عليها، ولكن بطبيعة خبرته في هذه العلاقة تاريخياً، من خلال موقعه السابق كمسؤول أول، ولفترة طويلة، في المخابرات الروسية، أو من خلال مواقعه السياسية المتقدمة في الإدارة الروسية والتي تناوب عليها لفترة طويلة، كان واضحاً له أن الاشتباك التقليدي بين القوتين العظمتين لن يتأخر كثيراً، وسيكون واقعاًّ حتماً، وبأنه يوجد بين الطرفين الكثير من أسباب الاحتكاك غير البسيط، القادر على إعادة إحياء المواجهة التاريخية بين الدولتين.
أول نقاط الاحتكاك هذه ظهرت عندما دعمت السفارة الأميركية في موسكو موجة الاحتجاجات الأخيرة في روسيا، والتي حصلت على خلفية توقيف أجهزة الأمن الروسية المعارض الروسي اليكسي نافالني، لمخالفته طريقة الالتزام بتنفيذ قرار قضائي، كان صدر سابقاً بحقه، بعد اتهامه بعملية اختلاس، بقي مُصرَّاً أنها عملية مدبرة من أجهزة الأمن الروسية، لمنعه من الترشح للانتخابات بمواجهة الرئيس بوتين، فحرك مناصريه للاحتجاج على توقيفه.
الاحتجاج الروسي الرسمي، والذي صدر عن وزارة الخارجية في موسكو، ندَّد بمحاولات السفارة الأميركية "تشجيع العناصر الراديكالية والتطاول على التشريعات الوطنية للدول ذات السيادة"، وحيث تضمن بيان الوزارة اتهاماً للسفارة الأميركية بالاستهتار بالقوانين الدولية وبالقواعد الديبلوماسية، بعد نشرها تقاريراً على شبكات التواصل الاجتماعي تأيد فيها الفعاليات الاحتجاجية غير المرخص بها في مدن روسية، ومن خلال قيام الديبلوماسيين الأميركيين بنشر "مسارات الاحتجاجات" في عدد من المدن الروسية، إضافة إلى دسَّهم معلومات مغلوطة عن تحضير مسيرة إلى الكرملين، وكأنه توجيه وتحريض مباشر لتوسيع الاحتجاجات.
هذا التدخل الأميركي الوقح في الشؤون الداخلية الروسية، كما رأته موسكو، لا يمكن أن يكون فقط تعبيراً ديمقراطياً عن الرأي، كما يفسر الأميركيون دائماً تدخلاتهم بالشؤون الداخلية للدول، على اعتبار أنه دعم أو تشجيع بريء للمعارضة الروسية، فهو أساساً يخالف القوانين الدولية ويتجاوز مبدأ وجوب الالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
كما وأنه يعبر وبطريقة فاضحة عن موقف أميركي رسمي بالوقوف ضد الرئيس بوتين، حيث تتركز أهداف المعارضة الروسية بقيادة الموقوف نافالني على إسقاط الرئيس بوتين في الانتخابات القادمة، وكأن إدارة الرئيس بايدن، ومباشرة فور وصولها إلى البيت الأبيض، أعلنت الحرب على الرئيس بوتين شخصياً.
صحيح أن أغلب البعثات الديبلوماسية الأميركية، وعلى كامل مساحة العالم، تتصرف بهذه الطريقة الفظة، والتي تتجاوز سيادات الدول والقوانين والأعراف الدولية، ولكن من غير الطبيعي أن تكون ردة فعل موسكو على ذلك عادية، حيث لا يمكن أن تسمح لواشنطن باعتبارها دولة من بين أغلب الدول التي تتعرض للانتهاكات الديبلوماسية الأميركية، الأمر الذي يوحي بمسار متوتر، لا يمكن استبعاد تطوره، خاصة أن هناك الكثير من الملفات الصدامية بين الطرفين، على الأقل حول ما يجري في شرق آسيا وشرق أوروبا والشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وغيرها..
النقطة الخلافية الأخرى والتي ستكون حتماً مادة مواجهة حارة بين الدولتين، والتي ربما عدها الكثيرون عنصر تهدئة، في الوقت الذي تحمل فيه عملياً وفعلياً عنصر تفجير واشتباك، هي تصريح الأميركيين أنهم جاهزون لتمديد معاهدة الحد من الرؤوس النووية "ستارت 3"، والتي تنتهي مدتها في منتصف شباط/فبراير القادم، مع تضمينهم بيان الموافقة على التمديد الإشارة إلى وجود بعض التفاصيل التي يجب مناقشتها قبل توقيع التمديد، التفاصيل التي تكون فيها الشياطين، والتي لن يمر النقاش المرتقب حولها على خير كما يبدو.
ما يمكن البناء عليه للاستنتاج أن تمديد المعاهدة المذكورة لن يمر بسلام، هو أنه لم يتغير شيء في معطيات الملف (تمديد معاهدة ستارت 3)، والتي كان الأميركيون مترددين في الموافقة عليها في عهد ترامب، فالصين ما زالت ترفض الانضمام إليها، حيث كان دخول الصين فيها مطلباً أميركياً أساسياً، كما أن وضع الروس بعض الشروط للموافقة على تمديدها ما زال مطروحاً.
ومن هذه الشروط الروسية لتمديد المعاهدة والتي تبقيها موسكو من ضمن تفاصيل النقاش لاحقاً، والتي تُعتير من أكثرها حساسية بالنسبة للأميركيين، السماح لهم (للروس) بفترة انتقالية، يستطيعون خلالها ملاحقة الأميركيين في ما أقدموا عليه في الفترة الأخيرة، وهو تقسيم عدد كبير من الرؤوس النووية الكبيرة والتي تحدّ منها المعاهدة وتفرض التخلص منها، إلى رؤوس نووية تكتيكة صغيرة، اعتبرتها واشنطن لا تخالف مبدأ "ستارت 3"، حيث لا تُعتبر رؤوساً قادرة على تحقيق دمار شامل، بل تأثيراتها ستكون موضعية، كدمار منطقة محدودة أو مدينة مثلاً.
من هنا، وإذا اعتبرنا أن نقاط الاشتباك الأكيدة بين الروس والأميركيين، سوف تكون محصورة فقط – وهي طبعاً لن تكون هكذا قط – بين التدخل الأميركي في شؤون روسيا الداخلية وتحريض المعارضة على الرئيس بوتين، وبين الخلاف على ملف القدرات الاستراتيجية النووية، وربطاً به ملف سباق التسلح، فإن مستقبل العلاقة بين الطرفين لن يكون وردياً أو هادئاً، وسوف نشهد اشتباكاً، صحيح أنه تقليدي بتاريخيته، ولكن يمكن القول إنه ربما لن يكون بالمستوى المضبوط عملياً، كما كانت العادة سابقاً.
* المصدر : الميادين نت
في الأحد 24 يناير-كانون الثاني 2021 07:13:30 م