|
أقام الشاعر الشهيد عبدالمحسن النمري في شعره تحدياً وكان جديراً بالانتصار، وهو أن تحمل القصيدة الشعبية مضامين إنسانية راقية، وأن يحمل الخطاب البسيط النابع من الثقافة الشعبية أبعاداً ثورية تقدمية تضاهي نتاج كبار الشعراء. وتنبع قيمة المضمون وتقدميته من الصلة التي تقوم بينه وبين الواقع، فكلما كان مرتبطاً بالواقع وبالقضايا الملحة وداعيا للثورة والتغيير وتجاوز واقع العثرة وداعيا إلى الحرية والتفتح الإنساني الحر كان أكثر تقدمية، فتقدمية الخطاب تنبع من هذه الصلة بينه وبين الواقع، بين الذات والموضوع، وليس من الزخرفة واستخدام الرمز والأسطورة وتناص المقولات الفلسفية والجنوح نحو التغريب ودعوات « العصرنة».
لا تقل أشعار النمري قيمة في مضامينها التقدمية عن مضامين أشعار كبار شعراء العرب في العصر الحديث، كبدر شاكر السياب، وأمل دنقل، وأحمد عبد المعطي حجازي، وخليل حاوي، ومظفر النواب، وعبد الله البردوني، وتوفيق زياد، وغيرهم، وكل هؤلاء الشعراء المبدعون كانوا نموذجاً للأدب الملتزم بقضايا الشعب والأمة، مدافعين عن الثورة والمقاومة وتحرير الإنسان من استغلال أخيه الإنسان وتحرير الأوطان من الاستعمار والإمبريالية، وكان لكل شاعر منهم بصمته الخاصة التي تميزه عن الآخر، ولم يمثل الالتزام قيداً على نتاجهم الإبداعي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنهم نتاج مرحلة تحرر وطني ونهوض شامل وزخم الحراك القومي والاشتراكي في العالم العربي، أما النمري فأنتج هذا الخطاب في مرحلة تراجع وانكسار، لكنه تجاوز هذا الواقع بما امتلكه من روح معنوية إيمانية وصلابة عقائدية كبيرة مثلت حافزاً لإبداعه الشعري ونضاله العسكري.
ومن شواهد النزعات الثورية في شعر النمري قوله:
أَيْنَ العَرَبْ؟!
ذَهَبُوا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ إِلَّا بَقَايَا الذِّكْرَيَاتْ
حُكَّامُهُمْ مَاتُوا فَحَقَّ عَلَى شُعُوبِهِمُ الَممَاتْ
حُكَّامُهُمْ يَبْنُونَ مِنْ دَمِنَا القُصُورَ الفَاخِرَاتْ
يَتَطَاوَلُونَ عَلَى الرِّجَالِ وَيَسْخَرُونَ مِنَ البَنَاتْ
لَا يَسْمَعُونَ أَنِينَنَا كَسَمَاعِهِمْ لِلْأُغْنِيَاتْ
ظَهَرَتْ كُرُوشُ الظَّالِمِينَ وَفِي حَشَانَا الأُمْنِيَاتْ
هُمْ يَشْبَعُونَ وَلَا يَرَوْنَ هُنَا البُطُونَ الجَائِعَاتْ
هُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْـرَبُونَ وَنَحْنُ نَلْتَقِطُ الفُتَاتْ
الهَمُّ فِي دَمِنَا وَهَمُّهُمُ انْتِقَاءُ الفَاتِنَاتْ!
النمري نموذج الأدب الملتزم
إن أهم سمة في شِعر النمري هي أنه كان أدباً ملتزماً بقضايا الشعب والوطن اليمني والقضايا القومية والإسلامية. والأدب الملتزم هو الخطاب الفني الذي يُقدم للمجتمع ويحمل المشاعر والأذواق والاهتمامات والتصورات الجمالية والمثل العليا، وهو الخطاب الذي يستوعب الحياة وله تأثير على الناس وصياغة أفكارهم ومشاعرهم على نحو إنساني تقدمي نحو تحرير الإنسان من أشكال العبودية والاضطهاد. ولم يكن الالتزام بالقضية العامة الجماعية يعني نكران الحرية الفردية، فهي ضرورة من أجل حرية المجموع.
وفي ذلك يقول النمري:
وكيف أسعى إلى فك الحصار على أرضي ومازال محظوراً علي فمي
لأنني قلت يوما «لا» وقد حذفت من القواميس ولم يبق سوى «نعمِ»؟!
مختلف قصائد النمري هي في هذا السياق الملتزم، تجد فيها أنين الإنسان المضطهد وشحوب الإنسان الجائع وصرخة الإنسان المناضل الرافض للاستغلال، ونشيد الوطني الرافض للهيمنة الأجنبية، وفيها دعوة إلى أن يلتزم الإعلام بالمصداقية وأن يحمي الجندي وطنه وأن يقدم الإنسان التضحيات في سبيل القضايا العادلة. فهو شِعر جهادي كفاحي نضالي يحمل هموما جمعية، بل إن النمري نموذج للشاعر الملتزم بعهده، وهو الذي جمع ما بين الخطاب والفعل حتى استشهاده، معيداً سيرة الشعراء العرب الفرسان الذين حملوا السيف والقرطاس معاً.
وفي قصائد النمري إنسانية عالية ونبل فروسي، تصل إلى الحسرة على الخصوم، على الجنود الذين ألقى بهم علي صالح وعلي محسن في محارق صعدة، وليس من المعتاد أن يتحسر شخص على من جاء إليه ليقلته.
يقول النمري:
حسين حي ومات نصف الجيش حسرة للأسف
ضحى بها الريس، سمان القوم ضحت بالعجاف!
وفي قصيدة أُخرى:
الله أكبر! تموتوا لأجل يحيا «الأحمر»
لأجل تدفع له أمريكا ثمنكم سابق
يا علي محسن أقدم أنت لا تتأخر
لا تضحي بالأطفال، أنت شيبة حاذق
وانصح الجيش رحمة بالوطن والعسكر
ارفضوا الأمر، خلوا ذا الرئيس الفاسق
الغريبة أن نصف الضحايا واكثر
من جنوب الوطن، هذا الكلام حقايق
ويأتي التحسر الخاص على الجنوبين باعتبارهم أصحاب مظلومية تماثل مظلومية صعدة قامت بها سُلطة حرب 94م بقيادة علي صالح وعلي محسن الأحمر.
يظهر هذا الالتزام في كثير من قصائد الشاعر. وهذا الالتزام أخذ طابع الثقافة التي ينطلق منها النمري. فلما كان الشعر الاشتراكي يظهر الالتزام كمسؤولية طبقية عمالية وأممية شيوعية في النضال، فالالتزام في شعر النمري يأخذ طابع الالتزام الإيماني الجهادي، حيث يستوجب الإيمان بالله والانتماء للإسلام الثورة ورفض الظلم ونصرة الحق، وإلا فلا قيمة لهذا الانتماء للإسلام ولا ثمرة لشعائره. وفي ذلك يقول النمري:
كيف اغمّض إذا قد شافت الحقّ عيني؟!
وإنْ تعاميت ويش الفايدة في صلاتي؟!
كيف اضحّي على شان المصالح بديني
واترك الحق وأنا عارف انه ثباتي؟!
أدب المسيرة القرآنية اليمانية
إن صح أن نقول عن شعر النمري بأنه أدب المسيرة القرآنية فذلك واضح في شِعره، ولكنه في الوقت ذاته نموذج للأدب الشعبي اليمني وثقافته الشعبية وللثقافة والروحية الزيدية الثورية ضد الظلم والمتشيعة لآل بيت رسول الله، انعكست فيه شخصية الإنسان اليمني في البيئة القبلية، حميته وشجاعــــــته وأنفته وتمسكــــه بالمبدأ واستعــداده الكبير للتضحية، فشعر النمــــري الملتزم بالثقافة القرآنية الإنسانية أنتج داخل الوعي الاجتماعي اليمني وفي ظرف تاريخي معين.
إذا كانت المسيرة القرآنية استندت إلى فكر وثقافة السيد حسين وحركية وقيادة السيد عبد الملك، فإن هذه الركائز انعكست في لون أدبي من فن الزامل والشعر الشعبي مثله الشاعر النمري، الـــــــذي أصبح مرتبطاً بهذه المسيرة القرآنيــــة الثورية الوطنيـــــــة القومية الإسلامية الأممية فالشاعر النمري علم من أعلامها.
إن التزام النمري بالثقافة القرآنية لم يجعل خطابه الشعري مجرد صدى سياسي وثقافي جامد لخطاب السيد حسين، فقد كان النمري شاعراً مبدعاً من قبل التحاقه بالمسيرة القرآنية، وحين التحق بها وتشبع بثقافتها استطاع أن يُعبر عن هذه الثقافة الجديدة في خطابه الشعري الإبداعي، ووجد فيها ما يغني شعره ويوجه نزعته السياسية الثورية ويُغني عالمه الروحي العرفاني التصوفي، فكان الأقدر على فهم مضاميـــــن خطاب المسيرة القرآنية والأقــــــــدر على التعبير عنها، ومن هنا تأتي ميزته عن كثير من شعراء الزامل الذين ظهروا في فترات لاحقة فحسب اطلاعي الشخصي، مازال شعر النمري وزامله هو الأول ولم يتجاوزه أحد من الشعراء الشعبيين.
الشاعر الفارس
لطالما كانت هناك علاقة ارتباط وتلازم بين الشاعر والفارس في التراث الأدبي، كان لهما حضور شعري وحضور في ميادين القتال، ومن أبرز هؤلاء الشعراء الفرسان عمرو بن معدي كرب الزبيدي، الذي قال:
كم من أخٍ ليَ صالحٍ بَوّأتُهُ بيدَيَّ لَحدا
ما أن جَزِعتُ ولا هَلِعتُ ولا يَرُدُّ بُكايَ زَندا
أَلبستُهُ أَثوابَه وخُلقتُ يومَ خُلِقتُ جَلدا
أُغني غَنَاء الذاهبينَ أُعِدُّ للأَعداءِ عَدَّا
ذَهَبَ الذين أُحِبُّهم وبقيتُ مثلَ السيفِ فَردا
كان النمري شاعراً ومجاهداً بقلمه وصوته الذي يُحفز المجاهدين، وببندقيته في الميدان. هذا الارتباط ما بين الخطاب والفعل أعطى شعره تأثيراً عظيماً، فإذا كانت بعض المدارس النقدية تركز على مفهوم صدق التجربة الشعرية وتكاد تحصرها في الخطاب الغزلي، فإن هنا صدق تجربة كفاحية وجهادية.
فالأدب الملتزم كخطاب ونص هو في حالة تفاعل وتبادل مثمر مع الشاعر الفنان ذاته وحياته باعتباره رجل فعل، فالفعل والنشاط الاجتماعي يمده بمادة ثرية لفنه وخطابه، من خلال احتكاكه بالناس وتلمس معاناتهم ومشاعرهم وصمودهم وفاعليتهم الإنتاجية الكفاحية الثورية ومشاركته في الحراك الاجتماعي الثوري والكفاح المسلح، وكذلك كان النمري الثائر المجاهد الوطني الشهيد.
كان النمري يستشعر هذه العلاقة بين الخطاب والفعل، بين الشاعر والفارس، وهي العلاقة التي جسدها في واقعه، وله أبيات يقول فيها:
ما خُلِقْنا لغير الرمح والا السيوفْ
والفرس والمهند لي خيار اصدقا
بندقي في يميني والجعب في الكتوفْ
والكفن فوق راسـي موت والا نقا!
وهو موت من أجل قضية عادلة، لا الموت الذي عناه الشاعر الجاهلي بقوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا.
ويقول النمري أيضاً:
باحط روحي كف وسلاحي بحطه فوق كف
وجهاد ما يوصف أخوض بها المشقات العناف
إما حياة بعز والا موت من بعده شرف
يا لعن ابو من عاش يتخوف مواقفه ارتجاف
وهو جهاد موجه ضد واقع سيئ يجب تغييره، واقع هذه سماته:
بدون مجاملة واقع يحدد قيمة الإنسانْ
كرامة ما لها معنى شـرف مطعون عرض مهانْ
حياة يخطها الدم والألم رسامها الشيطانْ
وواقع ما يعيشه عصـرنا الحالي ولا الحيوانْ
* * *
على كل الشعوب ان تنتفض، يكفي ألم وصياحْ
على كل الشعوب ان تنتصـر من سطوة السفاحْ
تجاهد في سبيل الله وتنادي: كفاح كفاحْ
لأن الصمت ما يمكن يحرر في الحياة انسانْ!
الدعوة إلى الثورة
لقد كانت دعوة النمري إلى الثورة سابقة لما سُمي «الربيع العربي»، ففيما كان غالبية الشعراء آنذاك، إلا قلة ثورية منهم، كانوا يلجؤون إلى الرمز والغموض والذاتية والفردانية على سبيل رفض الواقع وبنبرة تأفف وشتم للشعب والوطن والبلاد، في هذا الوقت كان النمري شديد الوضوح في نقد الواقع ونقد الذات والدعوة إلى الثورة:
حَكَمُوا الأُمُورَ فَحَكَّمُوا فِي النَّاسِ حُكْمَ الجَاهِلِيَّةْ
مَسَكُوا الزِّمَامَ فَكَمَّمَ الحُكَّامُ أَفْوَاهَ الرَّعِيَّةْ
والأَمْنُ يَبْكِي فِي غِيَابِ الدِّينِ يُنْذِرُ بِالبَلِيَّةْ
وَيَصِيحُ حُكْم أَبِي لَهَبْ...
فَدَمُ البَرِيءِ عَلَى الرَّصِيفْ
حُكْمُ القَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفْ
هَذَا يَنَامُ بِلَا رَغِيفْ
وَذَاكَ يَلْعَبُ بِالرُّتَبْ
فَمَنِ السَّبَبْ؟!
نَحْنُ السَّبَبْ!
شخّص الواقع ودعا إلى الثورة، فحين كانت صعدة تعاني من الحروب الست الظالمة وتقود الثورة ضد نظام الاستعباد والاستغلال والوصاية، دعا النمري بقية الشعب للثورة، واستنكر عليهم الرقود والصمت، وقد تحققت هذه الدعوة في ثورة 21 أيلول/ سبتمبر 2014.
يا كاتب التاريخ إني من ذه الأمة بري
أنا مع شعري بكوّن شعب لا تقهر عصاهْ
لبيك دين الله بعت الروح وانت المشتري
والسوق فاتح من ترك ربي فذا «بوش» اشتراهْ!
* * *
والله أنا من أجلك يا وطنا نذودْ
لأجل تحيا معزز في نعيم وسعدْ
والمواطن إذا قد طوقته القيودْ
يكسـر القيد قبل يدق جنبه وتدْ
فتّح الناس قوموا واذهنوا يا رقودْ
بارق الحق يلمع لعن ابو من رقدْ
قاموا الناس وانتو -خافوا الله- قعودْ
ويش عذره من الله ذلك اللي قعدْ؟!
ليس ختاماً
هذه المادة مجرد إشارات من ديوان شعري ضخم وشخصية عظيمة لم تأخذ حقها من النقد، وفي شعر النمري جوانب وموضوعات عديدة، مادة ثرية تتطلب الاهتمام النقدي لها والاهتمام بها ثقافيا وإعلامياً، لأن المعرفة بالشاعر الشهيد عبد المحسن النمري (1973 - 2007) تكاد تكون محصورة في زوامل معدودة، فيما نتاج النمري أكبر وأعمق من ذلك.
* نقلا عن : لا ميديا
في الأربعاء 17 مارس - آذار 2021 09:41:58 م