|
خرجت الدبلوماسية السعودية عن لياقتها وهي تعلن مبادرة للحل في اليمن تعمق مفردات السيطرة والهيمنة, وكأن ما حدث خلال ستة أعوام لم يكن إلا نزهة حرب وليس للسعودية فيه يد, وكان الخطاب محايدا في حين أن اللعبة السياسية التي تنتهجها السعودية أضحت مكشوفة للرأي العام سواء المحلي منه أو العالمي, فشركات العلاقات التي تنفق عليها المليارات لتحسين صورتها لم تسطع طمس الحقيقة ولكنها روجت للمبادرة كرغبة من النظام السعودي في تحقيق السلام في اليمن, لكن مثل ذلك لم يلغ حقيقة ثابتة أصبحت أكثر تجذرا في الوعي الجمعي العالمي وهي : أن السعودية تخوض حربا, وتستخدم أسلحة محرمة دوليا, وتنتهك حرمات الإنسانية في اليمن, وتحاصر شعبا أعزل في مقومات حياته, وهي تضع نفسها في النقائص من حيث تظن كمالها وقدرتها.
لم تعد السعودية في الوجدان الجمعي بذات القيمة والمعنى الذي كانت عليه، قبل إعلان الحرب على اليمن, فقد تغيرت الصورة تماما عمّا كانت عليه ولعل زيارة قصيرة لمنصات التواصل الاجتماعي، وأخص اليوتيوب قد تجعلك تخرج بانطباع واضح ويقين بحجم التبدل والتغير الذي حدث في الصورة النمطية للسعودية وللمواطن السعودي في التصور الجمعي العام, سواء عند المسلمين على وجه الخصوص أو غير المسلمين على وجه العموم, فالقضية الإنسانية والأخلاقية مشترك إنساني كاد لتوافق يصل به حد التوحد والثبات في الرؤية والموقف .
لم يسخر اليمنيون مطلقا من موقف سياسي كما سخروا من مبادرة وزارة الخارجية السعودية, فالحرب التي يخوضون ويلاتها, والحصار المفروض على بلدهم في مقومات حياتهم لم يمنعهم من الإصرار والتحدي ورفض المبادرة على المستوى الشعبي، فضلا عن الموقف الرسمي المعلن, القضية لم تعد قضية مساومة عند اليمنيين, ولم تعد قضية حياة, ولكنها أضحت قضية كرامة وشرف يمس دماء الشهداء الذين خاضوا معركة عزة وكرامة, والعزة والكرامة مفردات أخلاقية تأبي الذل والهوان, وهي مفردات ذات عمق في وجدانهم العام الأخلاقي والتاريخي والثقافي فالملك الحميري فضّل الموت غرقا خوف أن تلحقه الذلة حين غزاه الأكسوم, وظل هذا المبدأ هو نفسه في كل حقب التاريخ حتى امتزج بدماء كربلاء، بعدها تحول إلى بعد عقائدي في البنية الثقافية اليمنية وهو ثابت بثبات الدين في وجدان أهل اليمن, وأصبحت مقولة الإمام زيد رضوان الله عليه : ” هيهات منا الذلة ” شعارا لسالف الناس ولحاضرهم في اليمن, لا نستثني من ذلك إلا العدد الذي فسدت طبائعهم بتبدل وتغير الأحوال في اليمن .
لم يدر في خلد كل صناع القرار السياسي والعسكري، أن تتمكن اليمن من الصمود والمواجهة كل هذا الزمن, كانت حساباتهم تقول بسقوط اليمن في ظرف أيام معدودات وهم يملكون المعلومات التي تسند هذه القناعات، فقد مالوا إلى الأسلحة وعملوا على تعطيل فاعليتها في ملأ مشهود, وكان يقينهم بأن القدرات العسكرية أضحت فاقدة لكل مقومات الدفاع, وقد عمدوا إلى تفكيك المؤسسة العسكرية كخطوة أخيرة تكفل لهم التفوق والقدرة على فرض ثنائية الخضوع والهيمنة , ولكنهم غفلوا عن “البأس الشديد” وهي مفردة لو تأملوا في السياق العام الذي ترد فيه في القرآن الكريم، لعلموا أن الجانب المادي لا يعادل شيئا في موازين الله, ولذلك تكثر على ألسنة المجاهدين من الجيش واللجان الشعبية مفردة ” هو الله ” إدراكا منهم أن ما حدث ويحدث يفوق القدرة البشرية والحسابات المادية .
القضية هنا قضية إيمان وهي قضية كانت معيارا في حسم معارك وجودية بدأت تباشيرها مع رسول الإسلام محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وما تزال معجزات هذا التوجه القويم تتواتر في كل حقب التاريخ, وما حدث ويحدث في اليمن اليوم معجزة بكل المقاييس في زماننا هذا بالنظر إلى التقنيات الحديثة وفقدان القدرة على فرض أمر واقع في اليمن .
لقد بات من الصعوبة بمكان التعامل مع الحالة اليمنية وفق الصورة النمطية التي يمثل هادي وزمرته امتدادا لها, اليمن اليوم لم تعد كما كانت قبل العدوان عليها, فالتغير حدث من خلال وجود قيادة ثورية شابة تشكل حالة ثورية متجددة وتمتلك إيمانا بقضيتها, ولذلك قد يكون الوعي بالمتغير الثقافي والأخلاقي الجديد هو المدخل المهم في التعامل مع المرحلة, فهادي وشرعيته لا وجود لهما في الواقع الجديد وهو واقع فرضته ظروف العدوان وتداعياته, فالحال التي عليها صنعاء تختلف اختلافا جذريا عن الحال التي عليها عدن كعاصمة لهادي وشرعيته, وتفاصيل ذلك في مجرى الأحداث في الجنوب وفي جبهات القتال, ولذلك نقول للسعودية إن صنعاء تملك قرار السلام وتملك قرار الحرب, ولم تعد المناوشة مجدية من مكان بعيد دون الولوج إلى جوهر القضايا, فالسلام الذي تنشده السعودية في مبادرتها هي الأحوج إليه اليوم, أما اليمن فالسلام والحرب سيان بالنسبة لها، إذ لم يعد لديها ما تخسره بعد أن عملت آلة الدمار للعدوان على تدمير كل شيء في اليمن .
ومثلما أعلنت السفارة السعودية قرار الحرب من واشنطن، هي اليوم تحتاج إلى ذات الجرأة وذات القرار في وقف العدوان ورفع قيود الحصار وعودة الحياة إلى طبيعتها في اليمن, ومن ثم الدخول في حوار سياسي يحفظ لليمن حريته واستقلاله وسيادته على أراضيه, وما سوى ذلك هراء لا قيمة له في وجدان أهل اليمن .
اليمن اليوم يملك قرار المبادرة ويملك زمام الحرب وهو قادر على إدارتها بما يحقق له وجوده وحريته واستقلاله سواء بالحرب أو بالسلم, ومن الغباء أن نرى وزيرا يهتم بملف السياسة الخارجية للسعودية لا يدرك حقائق الواقع ولا يعي مقدراته .
لم تعد السعودية بذات القدرة التي بدأت بها العدوان, لكن صنعاء اليوم غيرها بالأمس وهي قادرة على تغيير معادلة الإقليم, وقد أصبح الاحتكام إلى العقل أفضل من التمادي في الغي, وخروج السعودية بأقل الخسائر أفضل لها من الخسران كله, فما تزال في مرحلة تستطيع من خلالها ترتيب وضعها وتلملم ما تناثر من أوراق كان يمكن أن تكون أوراق ضغط تستخدمها في التأثير على النظام العالمي، لكن الغباء وسوء التقدير يقود بدو صحراء نجد إلى المهالك .
في الجمعة 26 مارس - آذار 2021 07:08:40 م