نحو معايير نقدية مشتركة للتحكيم
يحيى اليازلي
يحيى اليازلي

القصيدة الشعبية الحربية يجب أن تدرَّس بمعايير خاصة بها كقصيدة حرب شعبية معبرة عن حالة صمود جهادية كتبت في ظروف مختلفة عن ظروف أصناف الشعر الأخرى. وهذا طبعاً لا ينافي كلامي في موضع آخر حين قلت إن الشعر يجب أن يدرَّس بعيداً عن أجواء النص؛ لأن ظروف النص الذي أتحدث عنه هنا غير أجواء النص؛ لأن أجواء النص هي التي كتبت فيها القصيدة، لكن ظروف النص هي الطقوس والمناخات التي تشكل معها وجدان ووعي الشاعر.

وعلى ذلك، فإن مرحلة مواجهة العدوان الغاشم على اليمن بكل حالاتها وتحولاتها هي التي خلقت هذا الزخم الشعري الشعبي كما نراه في قصائد شعراء هذه المرحلة الذين سميناهم في دراسة سابقة "شعراء القرآن" أو "الشعراء القرآنيين"، وتتسم قصائدهم بالمباشرة والحماسة والتضمينات القرآنية وتضمين مكارم الأخلاق والمثل الشعبي والفخر، واتسام أشعارهم بكونها "حال"، إضافة إلى التزامهم باللهجة، كلا يصيغها بلهجته، ومعروف أن اليمن فيه لهجات متعددة، إلا أن ذلك لا يعفيهم من إيجاد خط مشترك يجمع تلك اللهجات. غير أن إيجاد ذلك الخط، وإن وجد فهو يشغل كلاً منهم عن التعبير عن لواعجه بما يناسب مكنوناته الشعرية أو هواجسه بالمفهوم الشعبي، وقد فعل ذلك فقهاء الشعر في الماضي وظهرت معظم القصائد الوسطى أو المتوسطة لهجة المغناة بصورة مقبولة عند كل اليمنيين في مختلف المناطق بل وعند الشعوب العربية، والمسماة بالشعر الحميني، الذي يتصف بالعامي المفصح أو الفصيح العامي. غير أنه في طبيعته وبنيته صيغ طربياً، في حين أن أشعار الحرب لا تحمل أي ملامح للطرب، ولكنها ذات طبيعة تحفيزية ميدانية.
إذن فنحن إزاء فن شعري خاص تخلقه لحظات "الحال"، وتلده مخاضات المعارك، وعلى ذلك قلنا آنفا إن أدب الحرب لا بد أن يدرس بمعايير تمثله كمنتج فني شعبي متميز بكونه يحمل سحنة وجينات مرحلته، وهذا لا يعني أن نلغي المعايير النقدية التي توصل إليها نقاد الشعر الشعبي، ولكن يمكن أن نستفيد منها، ونضيف عليها، لأن الإبداع والثقافة إرث إنساني تراكمي، لم يصل إلينا بصورته مرة واحدة، لكنه وصل عبر تراكمات إبداعية جيلاً بعد جيل حتى وصل إلى صورته. وعلى ذلك فالعملية النقدية بالتالي يجب أن تكون إضافة لما وصل إليه النقد عبر الأجيال منذ امرئ القيس في الجاهلية ومنذ سكينة بنت الحسين في الإسلام وقدامة بن جعفر إلى أبي تمام والبحتري والمتنبي وابن جني إلى طه حسين والبردوني إلى ابتسام المتوكل وحمدي الرازحي وكريم الحنكي وإبراهيم طلحة وعلي جاحز وعبدالحفيظ الخزان في زمننا.
إن الإبداع، بل إن الحضارات برمتها هي عملية تراكمية للفكر الإنساني عبر التاريخ. لا يمكن إلغاء ما توصل إليه الفكر الإنساني فيما يتعلق بالأدب والنقد الأدبي لمجرد أن توصلنا إلى رؤية أو أسلوب جديد، لأننا لو نظرنا مثلا في الفيزياء سنجد أنه لولا قوانين الجذب لنيوتن لما تم التوصل إلى النظرية النسبية التي جاء بها آينشتاين، كذلك لولا النسبية لما تم التوصل إلى النظرية الكمية، ولولا النظرية الكمية لما تم التوصل إلى نظرية الأكوان المتوازية؛ وكذلك الأمر ينطبق في الأدب أو في النظريات النقدية الأدبية، فما يسمى بالحداثة هو ما أدى إلى ظهور البنيوية ثم أدت هذه أو كانت سببا لظهور التفكيكية.
عندما نظرت في المعايير النقدية للجنتي التحكيم في الحلقتين الأولتين من برنامجي "شاعر الصمود" الموسمين الأول والثاني، وجدت فوارق بين معايير اللجنتين في الموسمين، هذه الفوارق ظهرت لسببين: أن لجنة الموسم الأول أكاديمية، وقد حاولت أن تسقط على قصائد شعراء الصمود الحربية الشعبية النظريات النقدية الحديثة، وقد أخفقت ونجحت في ذلك نسبيا. وبالمقابل فإن لجنة التحكيم الخاصة بـ"شاعر الصمود" للموسم الثاني كانت لجنة غير أكاديمية وغير متخصصه لكنها على الأقل ممارسة، وقد سعت هذه اللجنة إلى وضع أطر جديدة خاصة بها، محاولة بذلك التأسيس لفن نقدي يستند في بنيته على أسس ومنطلقات شعبية بحتة، لا، بل عامية بحتة، لأن مفهوم الشعبي كما قلنا في مقال سابق لا يعني العامي، لأنه يشترك فيه الفصيح والعامي، وضربنا لذلك مثلا بأدب نجيب محفوظ المكتوب بلغة فصحى، لكنه جاء معبراً عن الحالة الشعبية المصرية التي عاشها نجيب محفوظ ونقلها إلى العالم ولم تؤثر في شعبيتها سلبا لغته الفصحى. ينطبق بالطريقة نفسها على أدب عبدالله البردوني المكتوب بالفصحى، ومع ذلك لم يتجاوز كونه معبراً عن الحالة الشعبية التي عاشها البردوني في اليمن في زمنه.
ولهذه اللجنة ومعاييرها نجاحات وإخفاقات نسبية، وبالتالي فإن الخروج من تلك الفروق التي أفرزتها معايير اللجنتين بخلاصات يمكن البناء عليها بشكل ضروري ومُلح، هو الأنسب ليس من أجل نظرية نقدية، بل من أجل معايير مناسبة لأدب المرحلة أو بصورة خاصة شعر "الزامل".
ويجب الاستفادة من تلك النجاحات المشتركة في بناء هذه الرؤى، التي يمكنها أن تكون الخطوط المشتركة لخلق نجاح حقيقي ومعبر عن كل شرائح اليمنيين.
على رأس الفوارق التي وجدناها هي المباشرة، فالمباشرة عند اللجنة الأكاديمية عيب، بينما نجد أن المباشرة عند اللجنة غير الأكاديمية ميزة.
الصورة أيضاً بالنسبة للجنة الأولى مهمة، بينما هي ثانوية عند اللجنة الثانية.
استحضار التراث والتاريخ عيب عند لجنة الموسم الأول، ومهم عند لجنة الموسم الثاني... وهكذا ستجد أن ما تحبذه الأكاديمية غير مرغوب عند الأخرى، والنتيجة حدوث فجوة كبيرة بين مناهج الأكاديميين وبين الأطر أو الرؤى التي حاول فرضها النقاد الشعبيون، ومن ضمنها نفورهم من اللفظة الفصحى.
إن من الضروري أن نستغل حدوث هذه الفجوة وأن نتساءل: هل يمكن إيجاد نظرية أو منهج أو إطار أو سبيل للتجمع بين اللجنتين، لكي نردم تلك الفجوة وإيجاد مشتركات نقدية من خلالها نستطيع تقييم وتقويم ودراسة أدب الصمود بشكل الصحيح؟
على ضوء النتائج المشتركة يمكن التوصل للجنة تحكيم نموذجية نستطيع تقديمها للتحكيم في برنامج "شاعر الصمود" للموسم الثالث، بحيث يتم الفرز والتقويم والتقييم لشعراء الصمود الموسم الثالث بإنصاف وإسعاد للجميع، وبما يمكن قصيدة الصمود من الظهور للعالم بالوجه المشرق الحقيقي. وإن هذا لن يتأتى إلا بالنظر إلى قصيدة الزامل من نافذة خاصة، لكنها واسعة تستمد منهجيتها من حالتها الحربية الصمودية ذاتها.
وإلى ذلك أتساءل: هل يؤثر تفاعل الجمهور على رأي اللجنة أثناء تسابق الشعراء، أم أن عليها، قبل ذلك وبعده، قراءة النصوص بحس نقدي متجرد فلا تميل إلى شاعر ما تلبية لرغبة جمهوره؟ إذا كان ثمة تأثير جماهيري على أداء التحكيم فأنا مع البرنامج بدون جمهور كما هو في الموسم الثاني.

* نقلا عن : لا ميديا


في الجمعة 09 إبريل-نيسان 2021 08:05:21 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=3637