|
مضمون عنوان المنشور الذي كتبه أحد الزملاء القضاة الموسوم بـ (القضاء يعاني من مشاكل لا فساد) يمثل توجهاً لدى عدد واسع من القضاة، لذلك فالمهم هو مناقشته على هذا الأساس وبصورة مقتضبة.
تركز الموضوع على النفي المطلق لوجود فساد في القضاء ، وأعتقد أن الأحكام المُطلقة من أسباب ما نعانيه من ضياع، كونها تعبر عن حالة استعلاء وتعامٍ عن محاولة معرفة الحقائق كما هي، ما يجعلها تفتقر إلى الدقة والموضوعية دائماً ، فصاحب هذا الحكم المُطلق اختار الطريق السهل لنفي ما يقوله ويردده الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة ومنها وسائل التواصل الاجتماعي والسوشل ميديا من اتهامات للقضاء والقضاة بالفساد المطلق ، وهذا أيضاً طريق يؤدي بالنتيجة إلى المساواة المطلقة بين القضاة الشرفاء والفاسدين، وهي نتيجة لا يوافق عليها بالضرورة أي قاضٍ شريف ولا يقبلها أي إنسان سوي ،لأن الحرص على الدقة والموضوعية في تناول العلاقة بين القضاء والإعلام من بين أهم أسباب البحث عن مضمون الإعلام القضائي، أما نطاق هذا الموضوع فيصعب حصره.
كل إنسان يمتلك الوعي والبصيرة يؤكد على مسألة غاية في البداهة وهي أن القضاة بشر فيهم الصالح والطالح ، الشريف والفاسد الملتزم بواجباته الدينية والقانونية والأخلاقية والمستهتر ، الكفؤ وعديم الكفاءة ، ضعيفها ومتوسطها ؛ ، وينبغي النظر إليهم على هذا الأساس ، والمنشور يفترض أن القضاة ككل ملائكة في مقابل من يرونهم شياطين بالمجمل، وكلا الحكمين بالتأكيد خاطئ لأنهما يفتقران إلى أبسط مقومات الأحكام التي تعتمد الدقة في التشخيص والعلم اليقيني بالوقائع والأدلة وتربط الحيثيات بالوقائع والأسباب، ولهذا فإن القانون اعتبر الحيثيات والوقائع جزءاً من منطوق الحكم لأنها سبب للحكم والمنطوق نتيجة وكل النتائج ترتبط بأسبابها !؛
وعلى ذلك فإن الأحكام المُطلقة التي تتهم كل القضاة والقضاء بكل هيئاته ومؤسساته بالفساد هي أيضاً أحكام فاسدة لأنها تفقد الثقة بالقضاء إن بقي شيء منها وتؤدي إلى مزيد من التشهير بمؤسسة يفترض التعامل معها ومع جميع منتسبيها بالقدر اللازم من الاحترام والتبجيل وبما يُعلي من شأن العدالة ، وفي ذلك مصلحة عامة للمجتمع وللقضاء يساعده على استمرار أدائه لمهامه ، أما ما أورده كاتب المنشور من نفي مطلق لوجود الفساد في جسم القضاء وأنه إنما يعاني من مشاكل أبرزها العدد الهائل من القضايا التي تسبب ضغطاً على القاضي والمحكمة وقلة عدد القضاة في المحاكم والنيابات ومختلف الوظائف المساعدة ، فالخلاف حول وجود تلك المشكلات وحول المعادلات الحسابية التي فصَّلها ضئيل ، بل إن حجم ما تعانيه المحاكم وهيئات القضاء والقضاة من مشكلات يصعب حصرها ، ولا أدري هل أراد بهذا المنشور تبرير حالات الفساد الفاضح الذي ينخر الجسم القضائي ويفتك به ؟!؛
هذا التساؤل بمثابة دعوة للأخ كاتب المنشور لمراجعة تعريف الفساد والتمعن في تفحص شكاوى الناس من فساد القضاء والقضاة كطريق لإنصاف القضاة الشرفاء بشكل خاص ومن يعانون من الفساد بشكل عام ، فالإنكار المطلق لوجود الفساد لن يؤدي سوى إلى إصرار المواطن البسيط على أحكامه المطلقة بأن القضاء فاسد على الإطلاق ، وكلا الحكمين لا يخدم من يريد الإصلاح، والبداية كما أشرنا تكمن في التسليم ببديهية كون القضاة بشراً والقضاء شأنه شأن بقية مؤسسات الدولة بحاجة إلى عمل جاد لتشخيص أوضاعه وتقييم مشكلاته ومحاولة وضع السياسة اللازمة لحلها والتأكيد على الجدية في التعرف على حجم الفساد ونوعه وكيفية مكافحته باعتبار أنه آفة شاملة تكاد تعصف بما تبقى من الدولة اليمنية ، وكل محاولة لدفن الرؤوس في الرمال، وتجاهل هذه الحقيقة هو الجزء الأخطر من العدوان ، والقضاء بحكم صلته المباشرة بمشاكل الناس وحماية أموالهم وأعراضهم نراه أكثر تعرضاً للنقد والاتهام بالفساد سواء كان نقداً رصيناً بناءً أو تضمن كلمات نابية وفي القرآن الكريم (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) وأذواق الناس وأفهامهم ليست متساوية، وواجب القاضي دائماً هو التعامل مع كل القضايا برحابة صدر وتقدير ظروف كل من يلجأ أو يُقدم للعدالة جانياً كان أو مجنى عليه ، مدعياً أو مدعى عليه ، مهما أساء بالقول فأحكام القضاء وقراراته عنوان الحكمة وهي من أهم وسائل الإصلاح الاجتماعي وليس الانتقام وخاصة في الظروف الاستثنائية ، والقاضي الذي يحمل ذرة من ضمير لا يتردد عن مراجعة نفسه إذا تعرض لصرخة مظلوم أو محتسب مهما كانت قساوة كلماتها !، وكل هيئات القضاء مطالبة بأن تقوم في مواجهة الظلم ولا تقعد حتى تضع حداً لكل قاضٍ ظالم ولكل الأصوات المغرضة أو الحاقدة، أما محاولة إسكات النقد البناء بحجة الحفاظ على هيبة القضاء وإنكار وجود فساد فيه رغم كل هذا الصراخ فذلك أشبه بمن ينكر وجود الشمس في رابعة النهار وهذه كبرى الكوارث ، كل التحية والتقدير لكل قاضٍ شريف يحس بعظمة مسؤوليته ويدرك أن احترامه لنفسه هو طريق احترام الناس له !.
العدل عنوان كل طريق إلى الله والناس.
فانتبهوا أو فموتوا!.
في الثلاثاء 22 يونيو-حزيران 2021 07:33:12 م