|
انثيال العشق
"واصلْ ربابَ وإن جفتك ربابُ
واصفح فمغلوبُ الهوى غلابُ
قالوا مللتَ. وهل تملُّ هبوبها
ريحُ الصَّبا وجفونَها الأهدابُ؟!
دوزنت أشجاني فقالت نسوةٌ
وضحكن: حلَّ بـ دعبلٍ زريابُ
جدفن من كأسي على حببٍ ولو
أوغلن لم يصمد لهن إهابُ
ولو ان من أهوى تجلى طالعاً
لتقطعت أيدٍ وغُلِّقَ بابُ
مَهرُ المحبين الدموع ومهر من
نهوى دمٌ وخوافقٌ ورقابُ
وإذا جرت مقلُ الحنين، جرت بنا
وسط الحِمام أعنةٌ ورِكابُ
ينثال زيت العشق من زيتونةٍ
فينا فحنظل عشقنا عنَّابُ
ما في الأنام كعاشقينا عاشقٌ
كلا ولا أحبابنا أحبابُ"!
ضوء يكسر المصباح
(نص مواز)
الوصول للغاية يتطلب جهدا. الحب يكمن في الصفح. الشوق لذيذ إلا أنه مؤلم. أعلل ما بي بما يمنحني طيفك بقليل من ملامحك. حاشاك من قلب رفيع النغم.
هذا البيان كتاب اصطفاء. أيها الثمل وأنت الكأس! أيتها المتمايلة وأنا العربيد! ما الذي يمكن الجدائل من تقويض قلوبنا المشيدة بالزبر والقطر؟! هنا يتوجب على روحك اعتداد متكأ. السكاكين محرمة في هذه الحديقة المتدلية بالأرواح المبروقة بسطوع ابتسامات المحرومين، طالما بكينا فراقا وذهبت تأوهاتنا أدراج النياح، في حين أننا نفديهم الساعة، ولو مزقتنا السباع في الطريق إليهم، دموعنا سفننا إلى القعر. في أعماقنا منتهى خشوعنا. قلوبنا المثقوبة تمر بنا إلى الجهة المقابلة.
غاية الهداية لحظة تجليك الحقيقة، لحظة سطوع العشق، لحظة اتقاد زيت قلبك بلا إيقاد. أين تضع عينيك حين تنام؟! رأسك مشكاة. بؤبؤك مصباح.. جفنك كوكب متلألئ. رؤاك ملكوت. دموعك تكاد تضيء ولو لم يمسسها حزن.
أيها المحب، ليس لك كقلبك دليل، ولا لزيتك غيرك فتيل. أنت أول حاف على الأرض. لم يكن أحد ليجرؤ على المعراج قبل التيمم من غبار جناحك.
الشعر كممارسة
إن الوعي بالمفاهيم، أيا كانت، متفاوت نسبيا حتى بين كبار العلماء والمتخصصين. وعلى قدر أفهامهم لها يأتي المنتج الثقافي والعلمي قيما. لهذا نرى تدينا أفضل من تدين، ومواطنة أفضل من مواطنة، ومدنية وتمدنا أرقى من مدنية وتمدن... وفي الشعر نرى شعرا أجمل من شعر. وشاعرا أفحل من شاعر. إن الثقافة ونسبة الوعي بها لا تتجلى كمظهر حضاري إلا بالممارسة في الواقع المعاش، بكل جوانبها، الأدب والفن.
وإن الشعر لا يظهر كجانب حضاري فكري متطور حتى يمارس في الواقع كقوة إبداعية مؤثرة.
لقد كان الشاعر يخرج من السجن ببيت:
"ألقيت عائلهم في قعر مظلمة
فاغفر عليك سلام الله يا عمر"!
ويلبس قبيلة العار ببيت:
"فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا"!
ويحط من قدر قوم ببيت:
"قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا؟!"!
ويتشيع على يديه الآلاف في يوم بقصيدة مرتجلة:
"هذا ابن من تعرف البطحاء وطأته
هذا التقي النقي الطاهر العلم"!
ويحرك الشارع العربي للتحرر من الاحتلال ببيت:
"إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر"!
القصيدة الكاملة
مميزات قصيدة صلاح الدكاك أنها تحمل أكثر من غرض شعري: العشق، الهجاء، الفخر، الحماسة، التصوف، الرثاء، المديح، القضية، الثورة...
قصيدة وعي ثقافي وسياسي متوهجة بالمعرفة والخبرة، غاية في الإتقان، فن وإبداع وتقنية عالية وتكتيك مدهش. إنها بحق القصيدة الكاملة.
مديح
وهيا نغسل حواسنا في عيون مديح الحفاة، ونتيمم بمثار النقع من خطواتهم المسرعة في قفار النضال وشواهق البطولة. وفي حين:
"لم يبق إلا أشعثٌ حاف نبا
وأبى وكبّر صارخاً شبّابُ
حافٍ بلا رُتَبٍ، كرامةُ نفسه
زادُ الوغى والراتبُ الأرتابُ
رقمٌ جهاديٌّ ومشطُ ذخيرةٍ
ركعت له الدنيا ودانَ الغابُ"!
لأنها الحقيقة الماثلة للعيان. هذا الأشعث الأغبر لم يأخذ من زاد الدنيا إلا مشط ذخيرة ورقماً جهادياً ومع ذلك ركعت له الدنيا.
تجده يمدح القائد بنفس قدر مديحه المجاهدين، والعبرة لا علاقة لها بالعلاقات، بل بالأفعال ذات القيم النبيلة.
في حين يخفض جناح الحرف للمجاهدين الحفاة من نص آخر بقوله:
"يا حفاة فيهم تحار القواميس
وتعيا النعوتُ والأسماءُ
إن شعري فيكم زحافٌ غبونٌ
والقوافي في حقكم إقواءُ
أنتم الشعر كلُّه والقوافي
وأنا من معينكم سقّاءُ"!
هو هنا بالقدر ذاته يخفض جناح حروفه لقائد الثورة:
"هذا بيان تشيُّعي الثوري لا
غَمْرٌ محرّرُه ولا هَيّابُ
أتطرفٌ هو؟! أي نعم، وتصوُّفٌ
وهو الهوى إن شئتَ والإرهابُ
بـ"أبي ترابٍ" أحرفي تبرٌ وفي
قدر "ابن بدرٍ" تبرهن ترابُ"!
البيان لم يأت كردة لفعل استفزازي أو تحدٍّ لخصم، ولا طفرة فكرية أو شعرية مؤقتة، وإنما هو تسام كريم منطلقاته معرفية بحتة متصلة بالحقيقة الربانية، وامتدادها الروحي إلى معارج الأولياء.
هجاء
الشاعر مبدع يهجو بأقوى الألفاظ، وبأدب لا مبالغ. إنه يرمي الخصم بأقوى المعاني التي تردي الخصم في نفسه قتيلا:
"ولـ"شيخ ضبةَ" برلمانٌ في الحمى
نوّابُه لـ"نعاله" نُوّابُ
أقيالُ ماخور الرياض لقائطٌ
عربٌ وبعرُ سعودها العرّابُ
لم يبق لا قومٌ ولا قوميةٌ
لم يبق لا نُخبٌ ولا أحزابُ"!
تعرية كاملة لفكر وسلوك الأدعياء، أدعياء الدين وأدعياء الوطنية والقيم.
"نتفت شواربَها بغايا هول" وانتـ
ــبذت على شرف الحماة قِحابُ"!
كل المفردات هنا تطلبها السياق ولم يسغها النظم إلا وقد استدعاها السياق، فلم تأت اعتباطاً. ولأن بغايا هوليوود بهذا القبح فعلاً، فلا بد أن يأتي وكلاؤها بالطابع نفسه.
"حكمٌ لأعور نجدَ محكومٌ وجمـ
ـهورية حكامها حُجَّابُ"!
هذا الأعور في عقله وقلبه، وهذه هي الأغوار المتداخلة دهليزا لدهليز ومغارة لمغارة، ومآخذ في العمالة أيما مآخذ!!
استثمار طاقات الطبيعة
ضرب الله مثلا بالحيوان في القرآن ولله المثل الأعلى وعلى غراره في الأدب. وفي شعر الدكاك في هذا النص تحديدا وفي غيره كمجال سلوكي يكشف ويحلل من خلاله نفسيات شخوصه التي يتناولها في مقاماته الشعرية، سلباً وإيجاباً، وقد تنبعث من كوامنه مؤشرات اتصال بقوى الطبيعة، وإن الحكمة تقتضي ذلك.
قوله تعالى: "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت"، يستهدف في الوعي سلوك العنكبوت وليس خيوط نسيج بيته. ومعروف أن الصورة الأخلاقية لمجتمع العنكبوت سيئة للغاية، إذ تقتل الأنثى الذكر بعد التزاوج ثم تقوم بالتهامه كوجبة طعام، وعندما تضع بيضها وتفقس العناكب يقمن بقتل الأم ثم أكلها. إنها أسوأ العائلات على الإطلاق. يتضح لنا مقصد الآية، إنما ضرب به مثلا البيت الأوهن أخلاقيا.
سنجاب:
"أين الفنادمة الفشنك وفحلها
حامي الحمى وزعيمها السنجاب؟!"!
كرمز للفساد المالي، لأنه من قوارض وفواسق البلد الدبلوماسيين.
نياق:
"فمناخ أبواق النياق مناهل
لهم وروث حظيرها محراب"!
فحيثما أناخ الأعراب النياق اتخذ المرتزقة عند أبواقها منهلا، يعني أنهم لم يرتقوا حتى إلى مرتبة الأبواق، بل إنهم في وضع أدنى من أبواق الأبواق.
بعر:
"أقيال ماخور الرياض لقائط
عرب وبعر سعودها العراب"!
لقائط لأنهم لبسوا عباءة الأعراب، وأكثر من ذلك تأدلجوا بأيديولوجيتهم البعرانية السعودية، لأنهم قليلو أصل.
حمامة وغراب:
"فالمنجل الكداح ساطور وفي
ريش الحمامة والهديل غراب"!
فتحولوا إلى أدوات للتكفيريين وإلى دواعش للرؤوس ذباحين، أشكالهم كحمامات السلام لكنهم حين يحاولون هديلا يتضح أنهم غربان نواعق.
* نقلا عن : لا ميديا
في الجمعة 09 يوليو-تموز 2021 08:07:49 م