أحلام جحاف «لست سوى امرأة»
يحيى اليازلي
يحيى اليازلي
في روايتها البديعة "إضرام النيران" سعت أحلام جحاف لمعالجة القضايا المتعلقة بالتربية والتعليم من ناحية تربوية بحتة وبأسلوب علمي نفسي مستمد من خبرتها في السلك التربوي ومن ثقافتها العالية التي تنم عن تأثر أسري واجتماعي مثالي نوعا ما وريفي فطري من جهة، ولم تتعرض للمناهج التعليمية بشيء، وعالجت مواضيع كثيرة في الرواية منها بدرجة أساسية النظرة الدونية للمرأة والأنثى في هذا المجال وقضايا الفساد الإداري في التعليم والغش والزمالة والأخلاق وغيرها.
وفي مجموعتها القصصية التي بين أيدينا هذه بعنوان ''لست سوى امرأة''، قدمت الكاتبة أحلام جحاف نموذجاً رائعاً للقص المنبثق من البيئة اليمنية والذي يعكس أصالتها الأدبية، لأن الأدب ذو الهوية البلدية المكتوب بلغة راقية وقوية يتحول مع أقرب وقت إلى أدب عالمي.
في هذه المجموعة القصصية البديعة تعالج الكاتبة مواضيع اجتماعية كثيرة، منها المرأة والخرافة والثقافة الشعبية والجهل والتنشئة السلوكية للأطفال... لكن أبرزها قضايا المرأة التي تعاني من اضطهاد فكري اجتماعي ونظرة دونية وقهر وتمارس عليها أنواع العنف المادي والمعنوي. وتتغلغل الكاتبة بأسلوبها القصصي الجميل في نفسيات المجتمع من خلال شخصيات قصصها وقدرتها على محاكاة الشواهد الحكائية الشعبية بما يناسب المشهد والذوق الثقافي والاجتماعي في العالم المدني. إنها تثبت في كل مرة تصدر كتابا أنها تتدرج في سلم العالمي بهذا الرقي بخطوات هادئة ورصينة لا نملك إزاءها إلا أن نختصر إعجابنا بها على الأقل بهذه الصورة القرائية المتواضعة.. ولتعذرنا على الإخفاق وعدم الإلمام بأبعادها الفنية والفلسفية وعدم قدرتنا على التعبير عما يجب قوله حول أدبها الشاهق.
بقرة الليل
هذه القصة ترويها الكاتبة من وحي الطفولة، حيث كانت مع بنت عمتها كريمة تواجهان أحداث قصة مرعبة في طفولتهما. والقصة تدور في الشارع المجاور عندما أخرجتهما عمتهما الحازمة خارج البيت مغلقة دونهما الباب قبل غروب الشمس، لتأكلهما بقرة الليل! وكانت العائلات في تلك المنطقة يهددن أطفالهن ببقرة الليل في حالة عدم بقائهم في البيت هادئين، وفي الحقيقة إنها قصة مخترعة اخترعها الأهالي هدفها إفزاع الأطفال وردعهم عن الإزعاج والفوضى داخل البيوت، ومع ذلك فقد صادف أن ظهرت بقرة حقيقية من طرف الشارع، مما أصاب الطفلتين بالرعب والهلع، ولم تفلح المحاولات بعد تلك الحادثة لإقناع البطلة بأن تلك البقرة هي بقرة الجيران المسالمة التي لا تأكل الأطفال.
كل قصص الكاتبة أحلام جحاف وهذه القصة عبارة عن مجال إنساني لمعالجة المشاكل الاجتماعية في مجتمعها بطرق أدبية فلسفية بديعة ومعالجة نفسية عميقة، وهي في هذه القصة تضع مشكلة الأثر النفسي الذي تحدثه نساء المجتمع في الأطفال، والذي يستمر سلبا في الاتساع والتفاقم إلى مراحل متقدمة من أعمارهم.
داوية وهدار
هناك قصص شعبية يتم تداولها في المجتمع كحقائق مفروغ منها في حين أنها غير منطقية ولا تشبه قيم وأخلاق ذلك المجتمع، ومع ذلك تجد النساء أنفسهن يستشهدن بتلك الأمثال والحكايات التي تسيء إليهن كما تقول الكاتبة. ومن تلك الأمثال حكاية "هدار وداوية"، وهي قصة فلاح ذهب إلى السوق برفقة زوجته، وفي الطريق مر على رجل كفيف فتعاطف معه واصطحبه معه وترجل عن الحمار إكراما له، وعندما وصلوا ادعى الرجل الكفيف أن الحمار والمرأة له، وعند القاضي تم اكتشاف حقيقة الأمر بعد أن سمع القاضي الأعمى يقول: "إن سبرت مرة وحمار، وإن ما سبرت داوية وهدار".
ولم تتوقف الكاتبة عند ذكر القصة، ولكنها مضت في تحليلها ومعرفة خفاياها وأثرها وتفاعل المجتمع معها، وتساءلت: ما الهدف والغاية من هذه الحكاية؟! ومضت في تحليل الحكاية إلى أن توصلت إلى أن هذه الحكاية أحد أهم مظاهر العنف الممارس من المجتمع ضد المرأة، وانتهت إلى نتيجة هي تصوير المرأة كأنها لا رأي لها إلى درجة أنها لا تعرف من هو زوجها؛ ودعت إلى دراسة الموروث الشعبي بعناية ومعرفة دوافع وأهداف مثل هذه الحكايات.
غصن الشذاب
هذه القصــــة تحكــــي معتقدات خرافية خاطئة في الذاكرة الشعبية، وتناقش فكرة أن المرأة النفساء أو التي وضعت مولودا قد تصاب بعين حاسدة أو مس من الجن إذا هي دخلت الحمام دون أن تضع "الشذاب" على رأسها وفي ملابسها. والشذاب نبات عطري جميل تستخدمه النساء في مناسبات زفاف العرائس والولادة للزينة وتذكر النبي وقرع الشياطين، لكن "سماح" التي وضعت مولودها لم ترق لها هذه الخزعبلات، ورفضت وصايا حماتها ودخلت الحمام بدون الشذاب، وبعد أن خرجت من الحمام أخبرت عمتها أم زوجها أنها لم تصب بأذى، ومع ذلك باءت محاولات سماح بالفشل.
في هذه القصة تطرح الكاتبة مشكلة صعوبة تقبل المجتمع نتائج التجربة التي تثبت خطأ اعتقاده للخرافة هذه وغيرها من الخرافات، وأن هذه النتيجة التي أثبتتها تجربة دخول المرأة الحمام دون أن تضع في ملابسها أغصان الشذاب ولم تصب بأذى، ومع ذلك فقد تلاشت هذه الحقائق أمام عقليتي أم الزوج والزوج الخرافية.
إننا إزاء مجتمع مؤمن بالخرافة إلى درجة كفره بما يراه من براهين حقيقية.
لست سوى امرأة
في عموم المجموعة القصصية الرائعة ستلاحظ أن المرأة وانتقاص المجتمع لها محور كل قصة.
وهذه القصة قصيرة تناقش موضوع قيادة المرأة السيارة، وخلاصتها أنه برغم إتقان ليلى قيادة سيارتها والتزامها قواعد السير إلا أن رجل المرور أوقفها جانب الطريق، قائلا لها: لقد عطلت حركة السير بسبب توقفك في منتصف الطريق، متغاضيا عن الشاحنة التي توقفت أمامها، وحين أكدت له أنها توقفت بسبب توقف الشاحنة ارتبك قليلا وقال لها: "اسمعي انتي غير مرة"!
ثم سردت الكاتبة نقاشا دار بين ليلى وصاحبتها سارة التي كانت تجلس بجانبها في السيارة، وكادت سارة أن تسلم بمقولة شرطي المرور، إلا أن ليلى أبدت استياء ورفضا لهــــــذه النظـــرة القاصــرة عــــــن المرأة، والعبرة في القصة هي عدم تقبل الرجل فكرة قيادة المرأة للسيارة بغض النظر عن إجادتها للقيادة والتزامها قواعد السير.
الزنيحية
هذه القصة وإن لم تأت في الترتيب عقب قصة "غصن الشذاب" إلا أنها امتداد لمعاناة المرأة الوالدة، أي المرأة التي وضعت مولودا، ويطلق عليها المجتمع في اليمن اسم الوالدة لمدة أربعين يوما، وتظل حبيسة سريرها حتى انتهاء مدة الأربعين يوماً، من فترة العصر إلى المغرب، وتأتي النساء لزيارتها في هذا الوقت كل يوم، وتمارس على الوالدة خلال فترة الولادة قيود قسرية من العادات والتقاليد مصحوبة بخرافات فيها من الوعيد والترهيب ما يشبه الترهيب والوعيد الذي جاء في قصة "بقرة الليل"، وكذلك قصة "غصن الشذاب". وهذه قصة "الزنيحية" امتداد لمعاناة المرأة الوالدة في حكاية "غصن الشذاب". ولكن هذه المرة نرى حماة الوالدة تحيط بزوجة الابن بخرافة من نوع آخر، وهي عدم السماح للوالدة أن تنام أبدا في اليوم الثالث للولادة، وإلا ستأتي "الزنيحية" كما تقول الخرافة لتسرق حليبها، وعند ذلك لن يجد الطفل الحليب ليرضع، لكن ''جميلة'' تشعر بالإحباط والضيق ولديها رغبة عارمة في الصراخ بشدة، لأن ما يطلب منها غير منطقي، وهي على سرير الولادة مكبلة إلى صدرها بالبطانية الغليظة وعلى رأسها طرحة رغم حرارة الجو، وعليها ألا تنام خاصة ومكان الولادة يعج بالمتفرطات. تقول الكاتبة: "وتنتصر الحماة دوما في كل مرة، فهي من تمتلك الخبرة والمعرفة".
وتحاول "جميلة" إقناع الحماة بأن تستبدل بالبطانية ملاءة خفيفة، وبلا جدوى هزت الحماة رأسها رفضا لذلك المقترح العجيب. الحماة في كل المجتمعات تمارس دور العارف الخبير في كل شيء يتعلق بزوجة الابن الوالدة. تقول القاصة أحلام جحاف: "حتى سرة الطفل أصرت الحماة أن يتم تغميس قطعة من القطن بزيت ساخن ووضعها على السرة بدلا من تعقيمها بقطعة مشبعة بالكحول الطبي".
حاولت جميلة أن تشرح صحة وجهة نظر الطبيب، لكن الحماة ضربت عرض الحائط بتعليمات الطبيب. وبالمقابل قررت جميلة أن تنام ولتأتي الزنيحية ولتأخذ كل الحليب، وأثناء نومها تعالت أصوات النساء ''المتفرطات'' ما بين قائلة دعوها تنام وقائلة إنه تصرف غير حكيم... وبعد أن استيقظت جميلة وهي تشعر بالراحة والانتصار على الزنيحية -تقول الكاتبة- استطاعت إنقاذ حليب الأمهات من السرقة، وسقطت الأسطورة.
* نقلا عن : لا ميديا

في الجمعة 06 أغسطس-آب 2021 07:43:40 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=4078