|
تكثر الظواهر هذه الأيام دون وجود ضابط قيمي أو محدد فكري , وحين تكثر الظواهر يعز على المصلح الإصلاح , ويظن الظان صواب ما يذهب إليه حين يجد في يده سلطة , ومثل ذلك من الخطأ الذي وقعت فيه الأمم الأولى ولم نتعظ منها ونحن نقرأ تاريخها , إذ لو اتعظنا لما كنا نقع فيما وقعت فيه , وكان محل نقدنا ومآخذنا ونحن نكتب ذلك التاريخ .
فكرة الدين هي فطرة , فالإنسان يحتاج إلى قوة خفية تُحدث له توازناً وجودياً في الحياة , ولذلك نجد في الكرة الأرضية التي نعيش فيها – مع الانفجار المعرفي وذوبان الثقافات في بوتقة التقنيات التي جعلت من العالم قرية صغيرة – شعوباً تدين وتخضع لقوى خفية متعددة , وتمارس طقوسا وعادات تعتقد فيها , نحن نراها على غير اتساق مع الفطرة وهم يرونها عين الصواب , فقد وصلتهم عبر أجيال وأجيال وتاريخ بعض المعتقدات ممتد عميقاً في تاريخ بعض الشعوب والبعض مستحدث .
في تاريخ الشعوب والأمم تحولت الظواهر إلى معتقدات وكانت سبباً مباشراً في تمزيق الأمم إلى كيانات وطوائف , وحين يشتد عود أي طائفة تمارس طغياناً واستبداداً هي نفسها كانت تنكره قبل أن يشتد العود ويستقيم الأود , ولذلك نرى أن ما كنا ننكره يفترض أن يكون منكراً, فلا نأتي خلقاً نحن لم نكن نقره في الظروف التي تتشابه مع ظروفنا .
كل الديانات السماوية بما فيها الإسلام ابتعدت كل البعد عن فرض نفسها على البشر , ولعل الإسلام كان واضحاً وضوحاً لا مراء ولا جدال فيه بقطعية دلالة النصوص في موضوع الدين كطريق وكمنهج فهو يقول بحرية المعتقد , وحدد الرسالة في البلاغ المبين وبالجدال الحسن لبلوغ الحجة , وحصر علاقة الفرد بمجتمعه بالبلاغ وتنمية الذات فهو يقول : “”لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ”, , ولا يطلب من معتنقيه هلاك أنفسهم في موضوع الآثار والممارسات والعادات والتقاليد , بل قال “وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ” تحقيقاً لفكرة السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية حتى لا تصاب بالتشظي فتصبح الحياة جحيماً وعداوات وحروباً وتربصاً .
ونجد اليوم أنفسنا في محك هذه التجارب من خلال حالات الانفعال التي تتجاوز أطرها التي حددها القرآن في نصوصه قطعية الدلالة التي أجمع عليها الفقهاء من مختلف المذاهب والمفسرون وعلماء اللغة , لسنا نشازاً في كون يمتاز بالتعدد وبتعدد المستويات الحضارية , ولسنا تاريخاً لا يمكنه التفاعل مع عصره , كما أن الإسلام ليس جامداً حتى يترك الحضارة المعاصرة ليعود أدراجه إلى القرن الأول للهجرة , بل الإسلام حالة ديناميكية متحركة , بدأت هذه الحركة من زمن حروب الردة , ثم توالت في زمن التحديث للدولة وتشكيل ملامحها بالدواوين , ورأينا حالات الانتقال التشريعي من طور إلى طور بعد الوقوف على تطور المجتمع , فقد اُلغيت تشريعات كانت تعد من الثوابت واستبدلت بغيرها وبما يتسق مع ظروف المراحل , فحين وقعت مجاعة في ديار المسلمين تم تعطيل الحدود , وحين تطورت الدولة وتحسنت أحوال المجتمع الاقتصادية ألغت الدولة الإسلامية في صدر الإسلام نصيب المؤلفة قلوبهم , وقد رأى بعض علماء التفسير وعلماء الفقه الإسلامي أن الناسخ والمنسوخ في القرآن يحمل دلالة تغير الأحكام طبقاً لمتغيرات الزمان، وقالوا طالما كان الواقع متغيراً فالفكر يتغير بتغيره، وقالوا إن الأحكام مرتبطة بالمكان والزمان، أي بالمتغيرات، ولا يضير ذلك الثوابت في شيء .
إذن نحن مطالبون اليوم بالتعامل مع الأشياء ليس وفق ثقافات العولمة بل وفق ثقافتنا الإسلامية فنحن نملك القدرات الإبداعية والابتكارية في التفاعل مع المظاهر الحضارية المعاصرة بما يتسق وثقافتنا وقيمنا ومعتقداتنا, وبدلا أن نترك الحبل على الغارب نحاول تقديم المحتوى الذي يعبر عن ثقافتنا وعن هويتنا , أما فكرة الإلغاء والعودة إلى فكرة سيد قطب في التعامل مع الجاهلية المعاصرة بنفس التعامل مع الجاهلية الأولى فذلك تيه درنا حول رحاه نصف قرن من الزمان أو تزيد ولم نلق منه إلا توحشاً ودماراً ودماء تراق كل يوم , وها نحن نرى الإخوان اليوم الذين كانوا يرون الغناء خدشاً للدين وحراماً ويريقون دم أربابه يتفاعلون معه اليوم كأن لم يقل أحد منهم يوما بعدم جوازه ولم يرق دم أحد من أرباب صنعته , بل كادت قنواتهم أن تبثه في أوقات الصلاة دون أن ينكر ذلك من كان يقول بتحريمه بالأمس القريب .
نحن اليوم أمام قضايا شائكة ومعقدة تواجه المجتمع – وسبق لنا بيانها والتطرق اليها – لذلك وقعنا في عمق الأزمات المعقدة, ولم نستطع حل قضايا حقيقية ومعقدة ومتكاملة ومرتبطة ببعضها مثل فكرة الاستقلال, وفكرة تطوير المجتمع, وتحديث قانون حركة التغيير في الطبيعة والمجتمع.
فلا يمكن اختزال حركة الثقافة في المجتمعات إلى “نمطية مماثلة” كونها ليست جامدة أو ميكانيكية، وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية، ينظر إلى الفرد بوصفه فاعلًا اجتماعيًا، يؤثر ويتأثر, وينفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محددة، لتصبح التشكيلات الاجتماعية، كخيارات الولاء والانتماء، معطًى يشارك الأفراد في تكوينه.
ولذلك نقول، أنه لا يجوز تحليل الوعي المجتمعي، من خلال مواقع طبقية أو آيديولوجية واحدة، لأنه سيكوّن قراءة منحازة ، فنحن نخطئ إذا استنتجنا أن الأفكار التي تحرك الفرد موجودة في الفرد وحده، فالتفكير يقوم به الناس في جماعات معينة، وضمن سياقات كانت قد طورتها لنفسها كأسلوب خاص في التفكير، وهو ما يمكن اعتباره تشكلًا لـ “هوية ثقافية”. وبعض المفكرين يرى أن الناس يعيشون في جماعات لا يمسون فيها كأفراد منفصلين، بل يتصرفون مع أو ضد بعضهم، ضمن جماعات متنوعة التنظيم.
في الجمعة 10 سبتمبر-أيلول 2021 07:43:35 م