|
أكثر من 80 عاما من الحياة والشعر، عاشها الشاعر القدير عبدالله هاشم الكبسي (1936 ـ 2019)، بسيطا، قريبا من الناس، ملتصقا بهم، محاكيا همومهم المعيشية، ومعبرا عن قضاياهم اليومية، لاهجا بأحلامهم الوطنية، ومتغنيا بلواعجهم ومكنوناتهم الشخصية، بقصائد غنائية فائضة بالحب، وأخرى شعبية حافلة بالسخرية، وبطريقته "عبر عن نوازع الكثير بلغة الكثير، فكان خير من أنطق الواقع وأنطقه الواقع"، بتوصيف البردوني، في كتابه المهم "رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه".
"من العمودي العادي إلى الشعر الشعبي"، انتقل الشاعر الراحل عبدالله هاشم الكبسي. وهنا "نجحت العادية في شعره الشعبي جماهيريا"، يقول البردوني أيضا، وهو يؤرخ لظهوره كـ"شاعر شعبي أواخر ستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي، وفي مدة ثلاث سنوات أثار أهم القضايا الاجتماعية والسياسية بجرأة وبتدفق شعري"، معلنا بدء تجربته ورحلته الشعرية التي ستتسع لاحقا، إلى فضاءات الشعر الغنائي الحميني، عبر قصائد حميمية عذبة في بساطتها وإغراقها في المحكية اليومية.
يتجلى ذلك حين نستمع مثلا للفنان الكبير محمد حمود الحارثي، في كلمات أغنية "رد السلام"، التي يقول فيها:
رد السلام، رد السلام واجب، رد السلام
واسمح بوقفة واحدة وجاوب داعي الغرام
وقفة قصيرة ربما تناسب تخلق وئام
فالحب سنة والحياة تجارب على الدوام!
***
يا خو القمر ما بش قمر ملثم، يا خو القمر
ما بش قمر مثلك رأيت تبسّم على درر
ولا قمر مثلك كحيل أحوم أو فيه حور
لكن لماذا لك لثام حاجب؟! هذا حرام!
…
أو حين نستمع إلى الفنان الكبير أحمد السنيدار، الذي شكل معه ثنائيا خاصا، في عشرات القصائد والأغاني الوطنية والعاطفية، منها أغنية "ياسين عليك"، التي يقول في مطلعها:
ياسين عليك ارزم يدك على العود
فالقلب باللحن الجميل مشدود
واسرح على معنى طويل ممدود
يرقّص الطير فوق كل عنقود
***
دغدغ بريشك قلبي المتيم
وارعش بعودك جسمي المحطم
شد الوتر يطلع نغم منظم
يهز أعصابي فالقلب مخمود
***
صوتك جميل زيد ارفعه شوية
شا سجله وارسله هدية
أجمل هدية أغنية طرية
سلام مخصوص للحبيب ومحدود.
... إلخ القصيدة الأغنية.
أو في أغنية:
أمانتك وانسيم تعزم وتتخبر
عن الحبيب الذي غاب له سنة واكثر
بلغ سلامي إليه وافعل معه محضر
وعاتبه بالنيابة ليش يتكبر
…
هكذا صبغ الكبسي قصائده المتنوعة بمعجم العاديين وبمفرداتهم المحببة والأثيرة، فسمعوها ورددوها، حتى أصبح بعضها أمثالا تجري على الألسنة، مثل:
اصبر وهي با تنجلي
من يشتي الحالي صبر
ومن غثي ساعة سلي
ساعات، كذا طبع البشر!
هذه المسحة أو الثيمة سنجدها في أغلب إن لم تكن في جميع قصائده المغناة وهي كثيرة. وإضافة إلى ما سبق، نتذكر: "حبوب حبوب لا تغضب"، و"ما بال الحب يعذبني"، و"أشكي بمن ولعوني"، و"ما راح في بالي أو كان في الحسبان.. إن انت يا غالي تتعمد النسيان"، و"سلام وأجمل تحية"...
يتكرر الأمر أيضا في قصائده الشعبية غير المغناة، وهي قصائد كثيرة، لسماعها منه حين يلقيها بطريقته الآسرة وبلهجته ولكنته الصنعانية اليمنية الآسرة، فيضفي عليها بتفاعله وأسلوبه الخاص، نكهة أخرى من السحر والجمال، بما فيها قصائده المغناة.. وقد استمعت مؤخرا لقصيدتين هما "حبوب حبوب" و"ياسين عليك". ورغم كبر سنه، ظل محافظا على روحه وألقه الخاص. ومازلت حتى اللحظة أتذكر صوته على الهاتف، وهو ينادي نجله الفنان بحميمية الأب والصديق: "فؤاااديي!". كان ذلك في إحدى المقابلات التلفزيونية مع "فؤاده" الذي يحبه، وكون معه علاقة استثنائية تجاوزت علاقة الأب بابنه، وهي علاقة تأسرني فعلا، وتحيلني إلى علاقة الشاعر القاضي عبدالرحمن الآنسي، بنجله الشاعر القاضي أحمد عبدالرحمن الآنسي، التي تجلت من خلال بعض القصائد المتبادلة بينهما، كأن يكتب الآنسي الابن إلى أبيه قصيدة:
يا حمامي أمانة ما دهاك
طرت من بقعتك حيث الأمان؟!
فيرد الآنسي الأب بقصيدة:
يا حمامي على داري ينوح
لا تزد في شجى قلبي الكئيب
أنت تبكي هديل من عهد نوح
وانا أدعي حبيب عهده قريب!
لا تبتعد كثيرا علاقة شاعرنا الكبسي بنجله الفنان الكبير، إلا من حيث الأدوار، فالكبسي الأب يكتب القصائد، والكبسي الابن يتلقفها ويغني، فسمعنا منه: "من حبك القلب ما افرق من هواه"، و"كلفت نفسي وقمت اهوى كحيل العين"، و"قالوا أتوب من حبك"، و"أشتي ارتاح"، و"خلوني ارتاح"، و"اصبر وهي با تنجلي"، و"مع الأسف غلطان"، و"أشكي بمن ولعوني"، و"اسأل عينيك اسأل"، و"تحرشني"، و"خلي الأمر عادي"، وهذه الأخيرة، كانت موجهة إلى "فؤاده" نفسه كما يبدو من كلماتها:
يا مسافر أمانة
قبلما اقول مودع
اطرح اطرح فؤادي
اتركه هو وشانه
لا تقل: لا، ولا: مع
خلي الأمر عادي!
هذه العلاقة الحميمية والملهمة تتمظهر حبا وشغفا على نحو أوضح في قصيدة الأب، على أنغام صوت وأوتار الابن، وفيها يحضه على التغني والترنم، فهو بالنسبة له بلبل الفن ولحنه، جدول يحيي النفوس:
أنا في دنيا من الألمِ
حائرٌ في حالك الظُلمِ
فترنم يا «فؤاد» فما
يذهب الآلام كالنغمِ!
هكذا إذن، فالغناء ضوء ودواء، ولا قيمة للحياة، بلا رحيق الفن والكلم:
أي معنى للحياة إذا
أصبحت في عالم العدمِ؟!
ليس هذا الكون غير رؤى
ومضت والعيش كالحلمِ!
ومن التساؤلات الفلسفية، ينتقل إلى أن يأمره بسقيه كأسا معتقة، تسكر نشوتها الألباب:
فاسقنا كأساً معتقةً
من رحيق الفن والكلمِ
تُسكر الألباب نشوتها
وبها يغدو البصير عمِ!
ثم يذهب إلى التغزل بلحنه وعزفه المنعش لما مات من همم:
لحنك الرقراق منطقهُ
أنطق الأوتار دون فمِ
جدولٌ تحيا النفوس به
منعش ما مات من هممِ!
ولأنه كذلك، فليدمه الله بلبلا شاديا:
دُمْ لهذا الفن بلبله
شاديا في أرفع القمم
رافعا للفن أعمدة
في الذرى خفاقة العلم!
…
فالسلام والرحمة لروحه، إنسانا وشاعرا وفنانا.
* نقلا عن : لا ميديا
في الأحد 19 سبتمبر-أيلول 2021 07:22:06 م