نظرة نقدية «سندباد يمني في مقعد التحقيق» للأستاذ عبدالله البردوني.. هزيمة السؤال
لا ميديا
لا ميديا
 
د. محمد أحمد النهاري / لا ميديا -
ضمن أسئلة عبثية أو شبه عبثية يثيرها غير قليل من نقادنا العرب سؤال: هل الشعر وثيقة تاريخية؟ ونحيل عبارة السؤال إلى جواب يقترب من عبثية السؤال أيضاً، ذلك أننا نفهم أن من وظائف الشعر إن كان للشعر وظيفة أنه تعبير عن مشاعر روحية وجدانية في زمن ما في مكان ما، لترسم جدلية الصراع والتداول بين الإنسان ككائن فيزيائي له وجود خاص وعام.
حقاً إننا نحاول أن نتحقق من أسطرة الشعر وتهويماته السحرية لنؤمن مع الذين آمنوا بأن الشعر كما هو ذو بعد وجداني فهو ذو بعد واقعي تاريخي أيضاً.
لقد وقع بعض نقدة الشعر في التفريق بين الموضوعي والذاتي، وقد يأخذ المرء هذا المعطى على اعتبار أنه "تفريق مدرسي" فحسب، فلا وجود لموضوعي وذاتي في الفن. و"سندباد يمني في مقعد التحقيق" توحد المسافة بين الواقعي والفني، كما تلغي المسافة بين الذاتي والموضوعي. ولا بد من إلماحة تتوخى رصد المستويات الشعرية عند البردوني من خلال عناوين دواوينه الشعرية، فلقد صدر ديوانه الأول "من أرض بلقيس" عام 1961. وعنوانه –فيما بدا لي- ذو طابع متحدّ يأتي كرد على مزاعم تدعي أو على وجه التحقيق تسأل إن كان ثمة شعر أو شعراء في اليمن، وأبرز من ردد هذه الدعوى أو السؤال طه حسين، الذي لم يفهم عبارة أبي عمرو بن العلاء على وجهها: "ما لسان أقاصي حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا"، فلم يفرق بين اللهجة واللغة، وما رجع إلى مدونات النقوش وما كتبه الأدباء من شعر ونثر، خاصة وقد فتحت نافذة العالم على اليمن، والمقابل صحيح!
"من أرض بلقيس" فيه يرد البردوني على من أنكر على اليمن ليس فقط الشعر وإنما أن "جِنّ" الشعر قد نفثوا الكثير من "إملاءاتهم" العبقرية. أما الديوان الآخر فكان قد صدر بعنوان: "مدينة الغد"، وفيه يستشرف الشاعر البصير آفاق المستقبل ويرسم ملامحه. ويسجل هذا الديوان المستوى الثاني من مستويات التطور الشعري لدى الشاعر. ويأتي ديوان "السفر إلى الأيام الخضر" ليعيد ترتيب أمنياته، فتتداخل هذه الأيام الملوّعة شوقاً –يمكن تحقيقها- في أيام غائمة مبهمة: "وجوه دخانية في مرايا الليل" و"ترجمة رملية لأعراس الغبار". ففي هذين الديوانين تصوير لمستوى الغلبة التهويمية على واقعية الفن ليصبح الشاعر سريالياً، إذ السريالية تعبير عن (غيم) الرؤية، فلا يكاد المبصر أن يرى شيئاً، لاضطراب المرائي وقلقها على المستويين الحجمي والحركي.
جو النص
عوداً على بدء، فالبردوني قدم لنا على بساط الواقعين التاريخي والفني هذا الإنسان اليمني اللائذ –ولو بقش- هرباً من الفاقة والعوز. غير أن هذا القش أصبح غير قادر على التماسك لإنقاذ غريق، إذ يصبح هذا القش مُداناً هو الآخر في منتصف سبعينيات القرن المنصرم حتى منتصف الثمانينيات ساد مشهد الحزبية واليسارية على وجه غالب كانعكاس لفعل مضاد لمواجهة العبودية لحساب القرار الأجنبي والتبعية الامبريالية وللفقر المدقع الشامل للمجتمع الفقير الذي يسلب خيراته المتنفعون بثورات تفجر آخرها في 62 في الشمال وأكتوبر 63 جنوباً. فبرغم هذا الوعي الثوري الذي جاهد "السَّندباديون" في سبيل تعميمه فإن كراسي التحقيق كانت كفيلة بأن يقعد أو يجلس عليها أكثر من سندباد، وليلقي المستجوب فيما بعد ما يلقي... الخ.
وحدة الموضوع وتراسل الأجناس
استدعى مرض القلق -وهو أحد أمراض العصر- بلاغة مخصوصة، هي بلاغة الإيجاز. وبالرغم من تعدد تعريفات البلاغة أو "علم المعاني" الذي نظر له الجرجاني فإن هناك تعريفاً للغوي العربي القديم وراوية الشعر خلف الأحمر، هو أن "البلاغة لمحة دالة"، أي القدرة على التكثيف. وإذا كان جنس للرواية الغربية فقد كان السفر في القطار الذي يقطع مسافات بعيدة أحد أسباب نشأتها، فإن قلق النفس في العصر الذي نعيشه إذ تزدحم في النفس رغائب كثر ذات طبيعة ضرورية كهم توفير الضروري من العيش يقتضي كل ذلك توزيع الزمن –قدر الإمكان- بين الضرورات ومنها الإصغاء أو الصمت أو كليهما معاً. تخلو قصائد البردوني من المقدمات خلاصاً من التقليد القديم، فيدخل إلى الموضوع مباشرة، ليس لأن ذلك من خصائصه القديمة وحسب، ولكنها ضمن الخصائص الأسلوبية للشاعر: "ليس هناك وقت".
ومن باب إعطاء مفكرة نقدية يحسن أن يقف عليها القارئ الكريم، وهي أن قارئ النص الأدبي لا بد أن يقف وهو يقرأ عند أربعة أمور:
1 - المعطى البارز في النص الذي يطلق عليه "الفكرة".
2 - المعطيات الجزئية التي تظاهر الفكرة الأساس أو المعطى البارز.
3 - كيفية التشكيل الذي تطلق عليه الناقدة والشاعرة نازك الملائكة "المعمار".
4 - تمييز الأسلوب بين شاعر وآخر، باعتبار تعريف آخر للنقد الأدبي بأنه "فن تمييز الأساليب"، (مندور)، يدخل البردوني ساحة المواجهة ويجيش شاعرية المسرح ذي الفصل الواحد، ليفتح ستار المسرح على شخصين، أحدهما يجلس قبالة الآخر، بين يدي الأول، الذي يكتسي وجهه ملامح صارمة، أضابير محشوة بأسئلة تفيض عناء وفجيعة، بينما تملأ قلب الآخر السكينة والثقة والجرأة ويتسم أسلوبه بالصلف الثوري والعزيمة الصدامية المفاصلة (لصلة الشاعر بالواقع من خلال تجربة الثوري مع السجان).
إذا كان البردوني يعنون دواوينه الشعرية باسم واحدة من قصائده، فإن بقية قصائد الديوان تشي بعلاقة نسقية فيما بينها جميعاً. وقبل أن نعلق على هذه الفكرة نحاول التركيز على المعطيات التي سميناها الأفكار لتنظيم القصيدة (المسرحية) ذات الفصل الواحد -كما أسلفنا- بل ذات الأنفاس التي تلهث محاولة الفرار وما تلبث أن تغذ السير في اتجاه الخلق من جديد. ولكي تتضح الصورة سنحاول تحديد المعطيات.
معطيات هذه المسرحية الهزلية التي بطلاها:
أ) الجهة، جهة التحقيق: الذي غالباً ما "يتلثم" اسمه كما تتلثم صورته.
ب) "مثنى الشواحبي" السندباد على مقعد التحقيق.
ج) ثم جهد التحقيق.
ترجمة المشهد الأول: يفتح الستار على شخص يبحث عن شيء في الحقائب.
الجهة: اسمك ...؟
مثنى: 3 سنة تقريباً واسمي مثنى.
الجهة: أين كنت الأمس؟
مثنى: كنت بمرقدي وجمجمتي في السجن، في السوق شاربي.
الجهة: رحلت إذن! فيم الرحيل؟
مثنى: أظنه جديداً، أنا فيه طريقي وصاحبي.
الجهة: إلى أين؟
مثنى: من شعب لثانٍ بداخلي، متى سوف آتي؟! حين تمضي رغائبي.
الجهة: جوازاً سياحياً حملت؟
مثنى: جنازة حملت بجلدي فوق أيدي رواسبي
من الضفة الأولى، رحلت مهدماً إلى الضفة الأخرى حملت خرائبي.
الجهة: هراءً غريب لا أعيه!
مثنى: ولا أنا!
الجهة: متى سوف تدري؟!
مثنى: حين أنسى غرائبي.
في هذا المشهد يظهر كلا الطرفين في حالة خاصة، فالجهة مرتبك شديد الارتباك، يغمغم بأسئلة عادية مدانة بالسياسة، يحاول أن يتذاكى. أما مثنى فرابط الجأش جاهز الجواب يتعالى على الجهة، ساخراً غاية السخرية، متحد أقصى ما يكون التحدي والفلسفة، مما يظهر الفارق بين جهتين. أما المشهد الثاني فعلى النحو الآتي:
الجهة لمثنى: تحديت بالأمس الحكومة، مجرم!
مثنى: رهنت لدى الخباز أمس جواربي.
الجهة: من الكاتب الأدنى إليك؟
مثنى: ذكرته، لديه كما يبدو كتابي وكاتبي.
الجهة: لدى من؟
مثنى: لدى الخمار يكتب عنده حسابي ومنهي الشهر يبتز راتبي!
الجهة: قرأت له شيئاً؟
مثنى: كؤوساً كثيرة وضيعت أجفاني لديه وحاجبي.
الجهة: قرأت كما يحكون عنك قصائدا مهربة!
مثنى: بل كنتُ أول هارب.
الجهة: أما كنت يوماً طالباً؟
مثنى: كنت يا أخي، وقد كان أستاذ التلاميذ طالبي.
قرأتُ كتاباً مرة صرتُ بعده حماراً حماراً لا أرى حجم راكبي.
الجهة: أحبيت؟
مثنى: لا، بل مت حباً!
الجهة: من التي...؟
مثنى: أحبيت حتى لا أعي من حبائبي.
الجهة: وكم مت مرات؟
مثنى: كثيراً، كعادتي.
الجهة: تموت وتحيا؟!
مثنى: تلك إحدى مصائبي!
يمثل المقطع الثاني -بداية تحديت بالأمس الحكومة- حال مواجهة فدائية معلنة بين الجهة ومثنى ينتجها خطابان متضادان من حيث الصياغة الفنية، صاحباها: الجهة التي بدأت توجه التهمة المؤيدة بالتقارير اليومية، إذ يظهر المضمر -بحسب النقد الثقافي، ثم الصياغة الأخرى المعماة، حيث لا منطق ولا رابط بين السؤال والجواب، وهو الخطاب المفعم بالتحدي والمواجهة للصوت الذي يعبر عن إرهاب مستفز! مشهد يستمد منطقه من سياق عنوان الديوان "وجوه دخانية في مرايا الليل".
لنا أن نلاحظ (تقليدية) سؤال الجهة: من يمنحك إعاشة المأكل والمشرب؟ ولمن تقرأ؟ وحدود علاقتك العاطفية والقرائية؟ ولا يجد مثنى سوى أن يحاصر ببعض سلوك يستفز الجهة ويلمح إلى أن المثقف حمار يضيع وقته في عالم يدين المثقف والثقافة.
إن المثقف وأهل الجهة وذوي الصلة -وحدهم- يستطيعون تقييم العلاقة بين المواطن والسلطة، بل وحدهم يستطيعون قياس العلاقة بين أشواق الإنسان المتطلع للأمام، وآخر يخلق أحجاراً وعوائق تشحن عزائم الظلام ودواعيه.
في هذه المحطة -مع ما تقدم وما سيأتي من محطات كان الشاعر يجمع كل حيادية نقدية يحكم الصلة بين طرفي الواقعية التاريخية وواقعية الفن، ليكون الشعر تعبيراً عن الصدق العلائقي بين واقع مجتمعي موضوعي وقدرة فنية تعكس قدرة الشاعر على التشكيل!
هناك ما يكاد يجمع عله كثير من القادة والمتأثرين بالنقد الأوروبي والنقد الإنجليزي بخاصة، وما يسمونه "نمو النص" (growth of text) الذي تعبر عنه ذروة تحدي السؤال وهزيمة الجهة حين تطمع أن تبحث عن شبكة العلاقة أهي على شيء من الدقة، عن مصادر التعالق الثقافي بين مثنى ورفاقه، الذين تجمعهم واحدية الظروف وحتمية التغيير.
الجهة: وماذا عن الثوار؟! حتماً عرفتهم؟!
مثنى: نعم، حاسبوا عني، تغدوا بجانبي.
الجهة: وماذا تحدثتم؟
مثنى: طلبت سيجارة، أظن وكبريتاً، بدوا من أقاربي
شكونا غلاء الخبر، قلنا ستنجلي!
ذكرنا قليلاً موت "سعدان ماربي"!
الجهة: وماذا؟
مثنى: وأنسانا الحكايات منشد: "إذا لم يساعد الزمان فحارب"!
ونلاحظ في هذه المحطة استدعاء التراث (عمارة اليمني ومشكلته في مصر)!! ويستمر التحدي.
الجهة: وحين خرجتم أين خبأتهم؟! بلا مغالطة!
مثنى: خبأتهم في ذوائبي.
الجهة: لدينا ملف عنك!
مثنى: شكراً لأنكم تصونون ما أهملته من تجاربي.
وهنا تضيق الجهة بمثنى، لأن مواجهة التحدي المنتصر لتكون النهاية.
الجهة: خذوه!
مثنى: خذوني، لن تزيدوا مرارتي!
الجهة: دعوه!
مثنى: دعوني، لن تزيدوا متاعبي.
لحظة التنور في هذين السطرين:
خلاصة:
- تعالق موضوعي بين جهة تظهر بصفة القهر والقوة مؤزرة بصيغة الدولة، وأخرى تستأسد بالمبدأ الذي تعبر عنه عبارة "الدم ينتصر على السيف"، والكلمة تواجه الرصاصة والخوف.
- تعالق فني بين طرفي تعبير أسلوبي (بموقع) حادثة تاريخية، وأسلوب آخر تعبر عنه واقعية فنية تجعل الحدث واقعاً مشهوداً، من خلال آلية (أ) الحوار، (ب) تقنية اللغة المعبرة عن ثقافتين متضادتين تمام التضاد والتقابل.
وأخيراً نحن أمام قراءة حاولت أن تبصر شعاعاً فأبهرها نور شمس مضيئة جهرة تستدعي أكثر من عين تحاول أن تقترب من شمس شاعر بصير.
 أستاذ الأدب والنقد في جامعة صنعاء.
* نقلا عن : لا ميديا

في الجمعة 01 أكتوبر-تشرين الأول 2021 07:28:28 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=4313