|
كعادتنا مع كل المناسبات يأتي خطابنا الإعلامي وخطابنا السياسي منددين بالماضي وبأوجاع الماضي، ويتناسى ذلك الخطاب، سواءً منه الإعلامي أو السياسي أن ذلك الماضي لا يزال يعيش لحظتنا الحضارية ولم نتجاوزه إلى الحاضر والمستقبل وكأن ذلك الماضي مبرر لكل أوجاع الحاضر ومآسيه وقد أضحى شماعة نعلق عليها كل الأخطاء ونعلق عجزنا عن تجاوزه باستحضاره في كل شيء.
لم يعد الماضي مسؤولاً عمَّا تقترفه أيادينا في حق هذا الوطن أو في حق مستقبله، ذلك لأن الحاضر من صنع أيادينا وليس من صنع أحد سوانا، وقد ذهب الماضي بكل مساوئه ومحاسنه وليس من الحكمة في شيء أن نقف عند أطلاله نبكي حظنا المتعثر فيه، ولكن علينا أن نبكي حظنا المتعثر في حاضرنا وعلينا أن نقف لحظة تأمَّل حتى نعي هذا الحاضر ونتجاوزه إلى المستقبل.
لقد ذهب الزمن القديم بكل براكينه ودمويته وقمعيته وعقليته البوليسية، وجاء زمن آخر الانتصار فيه لقيم الخير والحق والعدل والسلام، فنحن مطالبون في لحظتنا الحضارية الراهنة أن نعي هذه القيم وأن نجسدها في واقعنا وخطابنا وأخلاقنا وأن نفلسفها في تطلعاتنا لا أن نجتر الماضي ونحاكم ضلاله فينا.
إن القيمة المثلى للثورة – أي ثورة – هي في تجاوز مبررات قيامها لا في التشدق بها واستمرارها في جلّ الممارسات التي تحدث في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، ذلك لأنّ الاستبداد يعني الاستمرار، وحاكمية الفرد الواحد تعني الاستمرار، والطغيان والتسلط يعنيان الاستمرار، وانتفاء القيمة الحقيقية للثورة وعوامل الرفض الشعبي التي تتمثل في الكيانات الرافضة لضلال السلطة لا تعني أكثر من أن خللاً قائماً في النسيج العام يشبه ما كان وقد ابتعد كل البعد عما يجب أن يكون.
لقد أصبحت الثورة حدثاً تاريخياً علينا أن نقف عنده لنأخذ العبرة منه ونتدارسه بحكمة وموضوعية مبتعدين كل البعد عن الحماقات وحب الأنا المضللة التي لا تجني إلا الحروب والويلات المدمرة للشعوب.
لقد أصبح من الضرورة بمكان أن نعي اللحظة ومستجداتها ونتجاوز لغة الماضي وخطاب الماضي وضلال الماضي ومثل ذلك ليس جديداً في فكرنا ومعتقدنا يقول ربنا جلَّ وعلا ” تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ” (سورة البقرة آية رقم 134).
إذن قضيتنا قضية حال وحاضر ومستقبل، وسؤالنا يجب أن يكون عن هذا الحاضر، فقد ذهب الماضي وذهب الفاعلون فيه ولنا اللحظة التي نحن فيها والتي يجب أن نحاكمها وفق معطياتها وتجلياتها بالمنطق والحوار والنضال السلمي الذي ينشد الغد الرغيد من بين أوجاع اللحظة.
إن ما يحدث في واقعنا وفي جلّ خطاباتنا ليس أكثر من هروب من إشكالات اللحظة التي نضعها نحن، تضليلاً لجوهر الحقائق وهروباً من المواجهة الصادقة والموضوعية والمنطقية لها، ذلك لأنَّ لعن الماضي لا يبرر مطلقاً أخطاء الحاضر، وليس من المنطق في شيء أن يظل مسؤولاً ومحاسباً على قضايا لم يكن فاعلاً فيها ولكنها وجدت هوىً في أنفسنا فكان استمرارها رغبة فيها لا كراهية لها.
إن لغة التسامح التي نقول بها ويقول بها قرآننا تفرض علينا أن نقف عند حاضرنا نشداناً لمستقبلنا، فكل أخطاء الماضي يجب أن تكون موضوعة تحت الأقدام – كما قال بذلك النبي الأعظم في خطبة الوداع – الذي كان يشرع لزمنه وللأزمنة القادمة بكل أطيافها وتجلياتها , وبقليل من التأمّل نجد أنَّ سياسة التوازنات التي كانت تنتهجها سلطة 17 يوليو 78م هي وراء كل أزمات الوطن وقلاقله وحروبه الداخلية وتردي أوضاعه الاقتصادية وتنافر نسيجه الاجتماعي وتشويش منهجه الثقافي وغياب الشعور بالهوية والانتماء، كما شكلت تلك السياسة مناخاً ملائماً لشيوع الفساد وتعدده في مناحي الحياة، حتى وصلنا إلى درجة الانهيار في منظومة القيم الأخلاقية التي كانت شيئاً مقدساً في أعرافنا، وما حوادث الاختطافات والقتل في الطرقات إلا دليل على ما نذهب إليه ونقول به من انقسام الشخصية والتباس المفهوم وانهيار القيم، وقد أضحت ثقافة التبرير هي السائدة، فتعاظم الخطر وغاب النقد الموضوعي، فأصبحت الحياة صراعاً غير محمود العواقب.
وعلينا أن ندرك أنَّ كل شيء في هذا الوجود يمر بمراحل إلى أنْ يصل إلى فقدان القدرة على التعامل مع مستجدات الزمن ومعطياته وعلى السلطة أن تدرك مثل هذه الحقيقة التي ربما تكون صادمة لكنها جوهر وحقيقة.
وعلى ضوء ذلك يمكنني القول إنَّ إشكالات الوطن وأزماته الخانقة وصراعاته وحروبه تكمن في ذات السلطة، وليس في الماضي كما يذهب إلى ذلك خطابنا السياسي والإعلامي، ونحن في مرحلة وزمن حاجتنا فيه إلى العقل أكثر من أي شيء سواه وإلى ثقافة الحوار والتسامح وقبول الآخر أكثر من ثقافة التبرير والانتقاص والأنا المضللة.
لا يخامرني شك في صحة قول القائلين بأن أزمات اليمن الحالية يديرها منطق القوّة، حتى يبدو لنا عكس ذلك، لأنَّ علامات الاستفهام ما زالت ترسم نفسها في منطق الفعل والحدث ومجرياتهما.
كل الذي يبدو لنا أن الإنسان الأكثر ادعاءً للوطنية الأكثر خدشاً في حياء الوطن والأكثر تفريطاً وإهداراً لمقدراته وهذا ما نلمسه عند الذين كان خطابهم مكثفا وخطبهم ومحاضراتهم، فولَّدت تلك الخطب والمحاضرات فأرا بقول قائلهم “يموت ثلاثون مليونا ويعيش مليون”، واتضح جليا من خلال انحياز الموقف والقرار إلى آلة القتل والدمار لليمن واليمنيين.
لقد قالت الأيام قولا فصلا وعملت الأحداث على الفرز اللازم وامتاز الناس واتضحت الحقائق، ونحن اليوم أمام حالة جدلية بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولعل سؤال المستقبل هو لسان حال الثورة اليوم وهو سؤال متعدد المستويات والمجالات ولا بد من الوقوف أمامه بقدر عال من المسؤولية الأخلاقية والدينية.
في الجمعة 08 أكتوبر-تشرين الأول 2021 06:57:38 م