|
ثمة من يقول إن قصيدة الزامل المباشرة لا تحمل جماليات القصيدة الجديدة. والحقيقة أنهم يرونها كذلك لأن نظرياتهم المعقدة لا تنطبق على نقائها، ولكون القصيدة العامية لم تحظ باهتمام منهجي حديث وجاد. وعموما هذه ليست مشكلة القصيدة العامية وإنما تقع المسؤولية على عاتق المؤسسة الثقافية وعلى نخبة الثقافة الذين يتعالون على قصيدة العامة وينظرون إليها من برج عاجي.
هذا إذا ما أردنا منافحة المعايير السائدة لقراءة النص العامي، وإلا فإن معايير بسيطة يمكنها إنصاف شعراء العامية، لأن المعيار الذي لا يتناسب مع هوية الأدب هجين، ولك أن تقرأهم من زوايا مناسبة وبرؤية أعمق، منطلقا من أرضية وشعبية الشعر نفسه. فشعر الحال يجب أن يدرس بمعايير تشبهه. الهاجس المهيمن على أنفاس الشاعر والظرف المقتضي أن يأتي الحال معبرا عنه وسواه من تلك المعطيات.
إن للقصيدة العامية ظروفها ويجب مراعاتها في التقييم، لأن التناغم مع شعريتها وتفاعل الذائقة معها تتم وفقا لمعرفة بالثقافة الاجتماعية، فقد لا تطربك كلمات أغنية شعبية ما، لكنها في الوقت نفسه تطرب شخصا آخر جالس معك في المكان نفسه، لماذا؟ لأنها لم تلامس ذكرى معينة لك مثلاً، أو حدثاً ما تعرفه... ولكنها لامست مناطق حساسة أو حادثة ظريفة في ذاكرة ذلك الشخص. إن مجسات التأثر ودرجات التذوق لدى الناس وبواعث اندهاشهم تختلف من شخص لآخر.
(2)
مهدي مفلح شاعر شعبي متمكن من كتابة القصيدة الشعبية وخاض أغراضها وجارى فيها وتمعن في أساليبها، فكان له صوته الخاص وعرف عند جمهوره بأنه شاعر حال سريع البديهة، وببساطته وتواضعه ونبرته الصعدية الجهورية حينا والشاحبة حينا آخر. وفي حين يبدو شعره بسيط الحرف فإنه باسط المعنى. هو كذلك خبير بمسالك وادي عبقر، لا يتوه فيه ولا يشرد عنه. كذلك هو حاضر في المشهد التربوي والثقافي، وفي الجبهة حاضر، ليؤكد أن الحداثة الشعرية مفهوم لا يتجلى إلا في الميدان..
وكتب مهدي مفلح منذ بداية العدوان على اليمن ما يعادل على الأقل قصيدة كل يوم وعلى مدى ست سنوات، وإلا فمنسوب إنتاجه الشعري اليومي بمعدل أكثر من قصيدة. مهدي مفلح لديه القدرة على مجاراة الأحداث بقصائد معبرة.
إنه يقول الشعر وهو ماش، كهذه التي قالها وكأنه تنفسها، لا تختلف في مضامينها عن خواص القصيدة الجديدة، في آنيتها وواقعيتها وخوضها في تفاصيل الحياة اليومية، بعيدا عن المجاز والصناعة البلاغية، على أن تفاصيل الحياة اليومية عندنا تعتبر متن حياة قياسا بنمط حياة المجتمعات الأخرى التي ليس فيها حرب:
وان كان يشتوا تراجعنا فمستبعد
وارض اليمن كل ابيها صالح الصماد
ولى زمن فيه نتراجع ونستعبد
واحنا مع الله رب العالمين اجناد
خضنا الشدايد بطاقة عزم ما ينهد
لو العوالم علينا للعدو اسناد
من كان ربي معينه كيف با يرتد
والمعنوية تعانق باسه الوقاد؟
لي ما نظر نصرنا واعمالنا تصعد
فاكيد عاده مقفل والذنوب شداد
من شافها شاف قدرة خالقه تشهد
وخر ساجد لربي صانع الأمجاد
فيها نما فكر قرآني ونهج احمد
ونهج الاسلام ما يخفى على الأشهاد.
وبالطبع لا يعني هذا انهمام شاعر الأحرار أبو العباس في الأسلوب الممعن في المباشرة، في حين أن الإمعان في المباشرة في الحقيقة مظهر من مظاهر العصرية، والحداثة لكونه معبرا عن حال.
وإلا فإن ثمة قصائد تسلب اللب، تشعرك مع كونها وليدة اللحظة أنها عبرت حضارة ومرت بأطوار حتى تخلقت وأصبحت بهذا الجمال، الباعث على مرادفاته: الشموخ والبطولة والكفاح من أجل الحرية والعدالة... هذه هي معايير الجمال الحقيقية، والذي لا يشعر بهذا الرقي عليه مراجعة تكوينه الإنساني.
ضاع السعودي يا اخوتي في الطوشة
ما عد درى من وين با يفلعها
جانا على الشرعية المربوشة
حامي ولكن ما قدر ينفعها
وبعدما اتفاخر بكثر قروشه
خاب الأمل والنفس لي طمعها
واصبح تهزه حربنا وتحوشه
ورجالنا اللي صار ربي معها
ما زد نفع نفطه ولا دعشوشه
ولا وسوخ الأرض لي جمعها
صارت على ميداننا مقروشة
والسحق والموت البطي يصكعها
يعقب ولد سلمان هو وجيوشه
واليد لي تمتد با نقطعها
لازم نخلي أرضنا مفروشة
باوصالهم والكايدة نطلعها
(3)
الدهر تمم والشرف حدق
والكون بحلق واندهش منا
تاريخنا يكبر ويتعملق
والمجد عبر للبشر عنا
غض البصر يا كون لا تشهق
حنا عمود المرجلة حنا
كادت خلايا الصبر تتمزق
ويموت مما قد لقي منا
إبليس منا داخ واسترفق
واهتزت القيعان لا قمنا...
يصف في هذه الأبيات مشاهد الدهر والشرف والكون وكلاً منها يبدي اندهاشا وإعجابا تجاه عظمة الجيش واللجان الشعبية. هذه الالتقاطات ذات المنحى المباشر، جميلة وفيها فكرة، ولها ميزات أهمها مواكبتها اللحظة. وثمة قصائد كثيرة له صاغها بتلقائية بلا تكلف، تاركا صوته يعبر عنه فأبدع.
(4)
مهما بذلنا على مارب من اجوادي
مهر الكرامة يبى له في الحظا عربون
عادي مع الله يرخص كل شي عادي
وفي سبيله تجود ارواحنا وتهون
لا بد ما تلحق المصلوب والوادي
لو با نقدم على تحريرها مليون
تصميمنا ما يحده في الزمن حادي
والباس فينا طلع واتصفر الطبلون
لي ما اتبع منهجه مرتد ومعادي
في موقفه صفر عايش في حياة الدون...
في هذه الأبيات التقاطات شعرية جميلة من ذهن الشاعر الصافي الذي يعيش في أجواء مجتمعية موصوفة بالإيجابية والحكمة، واستطاع من خلالها اختزان كم هائل من الأمثال والحكم الشعبية، ثم أتى بمثلها وأحسن من مثلها كما في البيت الأول:
"مهما بذلنا على مارب من اجوادي
مهر الكرامة يبى له في الحظا عربون". هنا يتجلى الخلق الشعري الحكمي الرصين، والذي أصبح الكثير يرددونه كمثل شعري حكيم.
(5)
"دق الإشارة واسلك الدرب الطويل
عاد المعارك يوم شلت راسها".
إعلان يمثل الرجال الأبطال وعدم شعورهم بأي تعب أو صخب، منذ شن العدوان على اليمن، بل إن عزيمتهم زادت وقوتهم تجددت وكأن المعارك بدأت للتو.
"دق"، ما هي إلا دقة واحدة، إشارة ضوء، هي الأسرع علميا من صوت دقة طبول الحرب، العبارة التي استهلكها الشعراء للتعبير عن بدء الحرب. "واسلك الدرب الطويل". مهما طال الدرب وحمي الوطيس إلا أننا نسلكه ونمضي فيه مضي الأتقياء، المعنى الدقيق لسبيل الله على منهاج أخلاقي قرآني.
"حتى نجيب الممتنع والمستحيل
ونحطم اذيال العدا من ساسها". "حتى". جواب السلوك على النهج القويم، فلو كانت الغلبة للقوة والبأس مجردة لما انتصرنا، ولكن النصر يأتي بالقوة وبالتقوى معا، عند ذلك سنحقق المستحيل، وفوق ذلك يكون تأثيرنا فعالا وحقيقيا، لأننا صادقون وغاياتنا عليا.
"واذا انسلخ ذا العام شبينا الفتيل
وللمنايا با نجهز ناسها".
وكأن العام كله أشهر حرم. ذلك منطق الخلق العظيم، والالتزام الديني بالشعائر. كأنها نبوءة بإسقاط العدوان بعد عام. وما لم تصدق النبوءة، فلا بأس، سنجدد إشعال فتيل الحرب بالشكل اللائق والكافي لهزيمته، لأنهم بكل ثقة وإيمان:
"فرسان في شعب اليمن ما هم قليل
كم من فتى للتضحية قرناسها".
* نقلا عن : لا ميديا
في السبت 16 أكتوبر-تشرين الأول 2021 06:55:40 م