|
من الواضح أن المعركة الأولى لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تمثلت في نبذه للعصبية حين رفض أن يساوم عليها كبار مراكز القوى في قريش ممن تربطهم به قرابة الدم والنسب أساس نظام العصبية الآفل وتبعدهم عنه صلة الإنسانية المشرق ، وكان رده حاسماً على من حاول من هؤلاء مساومته بالمال والجاه والسلطان القائمة على كهانة العادات والعصبية مقابل التنازل عن جوهر الرسالة المتمثل في بناء دولة العدالة والحرية القائمة على الرأي والمشورة والمستمد روحها من جوهر الدين : (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ) ، هذه الروح الاستشهادية التي استهل بها الرسول رسالته تبين مدى الاستعداد للتضحية بالروح في سبيل المبدأ ، وهو موقف تمتزج فيه روح التضحية في سبيل المبدأ مع الوعي المستمد من ملكوت الله أي من الوعي المبني على التكليف باستلام راية الحق كرسالة من الله للإنسان الذي يمثله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، وهو من سعى في مختلف محطات جهاده في سبيل إظهار دينه على أهمية أن يفهمه الناس كإنسان كي لا تختلط لديهم المفاهيم فيعجزوا عن التمييز بين الرسالة ، والمرسل وبين الرسول باعتباره بشرا قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) ، وبقي يؤكد خلال عمره القصير زمنياً العظيم محتوىً ومضموناً على حقيقة أن رسالة الإنسان في الدنيا الفانية هي العمل الصالح والحث عليه جسره إلى عالم الخلود (وجنَّةٍ عرضُها السَّماوات والأرض أعدَّت للمتَّقين) عماده النصيحة والإخلاص والحب والتقوى ، وعمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا بهذا المعنى لا يتسع للنفاق ولا للمخاتلة ، ولا لأن تصبح مقولة : السياسة فن الممكن بمفهومها المخادع مدخلا للتحالف مع قوى الفساد لإثبات القدرة على فهم السياسة.
فالسياسة وفق النظرة المحمدية تعني رفض كل المغريات والتمسك بالمبدأ، لهذا كان تحالف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع العبيد والمستضعفين لا مع طغاة قريش ومشايخها وأعيانها من رموز الجاهلية الأولى، وليس المقصود بالعبيد عبيد البشر والبشرة، وإنما عبيد الله الذين استوعبوا الفرق بين العبودية لله الواحد الأحد والعبودية للطغاة والعابثين والمستهترين بقيم الحرية والعدالة والسلام، وهو نفسه الفرق بين الرسالة بالمفهوم الجهادي الشوروي وبين السلطة بالمفهوم الاستبدادي الذي لا يعير قيم العدالة أي اهتمام.
إن إنسانية الدعوة المحمدية المستمدة من القرآن الكريم تقوم على معيار العمل الصالح والاستشهاد في سبيل إقامة العدل، وهو سر من أسرار بقاء مضمونها حياً في نفوس كل من يؤمن بها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وسر تجدد مفاهيمها المواكبة لمستجدات الحياة.
إنسانية الرسالة المحمدية تتظافر فيها الشريعة والعقيدة لتكون نواة دولة مدنية قائمة على المواءمة بين العقل والنقل والرأي والمشورة والثورة المستمرة ضد الظلم والطغيان والجبروت ، ولذلك نلاحظ أن الحامل الأول لمشروع هذه الدولة اعتمد في البداية على المقهورين من العبيد والمستضعفين الذين يشكلون دائماً الأكثرية من الشعب بالنظر إلى السلطة الحاكمة التي تشكل نسبة ضئيلة وهي المتحكمة بالسلطة والثروة والقوة ، ولمقتضيات السياسة لا بد أن يشمل المشروع بقية فئات المجتمع ولكن دون أن يمكن ذلك قوى النفوذ المالي والسياسي القديم من الهيمنة تحت عناوين عديدة منها من شملهم أحد مصارف الزكاة (المؤلفة قلوبهم) ، فتأليف القلوب المشروع قرار سياسي بيد دولة العدالة كعمل سياسي يحفظ التماسك في ظل ظروف استثنائية ولمدة مؤقتة تنتهي بانتهائها ، بمعنى آخر لا يعني تأليف القلوب استرضاء القوى المؤثرة وتقاسم السلطة مع من يلزم تأليف قلوبهم لأن ذلك يحوله إلى فرض يخل بمبدأ المساواة في تكافؤ الفرص ويخلق فئة عاطلة طفيلية تأخذ ولا تعطي ، أي أنه فرض مؤقت ينتهي حين تنتهي علة وجوده (الظرف الاستثنائي ) لتعود الأمور إلى الوضع الطبيعي الذي تتعزز فيه مبادئ التعايش والعدالة القائمة على حرية الفكر والمعتقد والمناخ المهيأ للعمل ويلبي الحاجات الأساسية المتصلة بحق الحياة ، وتبقى لغة الحوار هي أداة التغيير واستكمال أهداف البناء والتنمية في الداخل ، والعلاقات القائمة على الاحترام المتبادل مع الخارج.
هذه هي الأسس التي تقوم عليها رسالة الإسلام القائم على حرية الاعتقاد وهي ما تحتاج إليها حياة الإنسان بغض النظر عن دينه وعرقه وجنسه ومعتقده لضمان حقه في الوجود والبقاء.
نهج المحبة والسلام عماده * أنفاسُ حرِّ صادقٍ وهواهُ
في الثلاثاء 19 أكتوبر-تشرين الأول 2021 08:00:24 م