|
كنت وما زلت أعتقد أن لدى الشعب السوداني من التجارب السياسية والنضال ضد الاستبداد ما يجعله من أكثر الشعوب العربية تمسكاً بحريته واستقلاله وإصراراً على ضرورة الخروج من نفق الحكم العسكري واستمرار كارثة الاستيلاء على السلطة بالقوة ورفض الخضوع لقوى الاستبداد أياً كان شكلها وأسلوب وصولها إلى الحكم وهي أساليب تتنوع شكلاً ويجمعها مضموناً الحكم بالغصب ولو لبس الحكام ما لبسوا كما يقول الشهيد محمد محمود الزبيري رحمه الله في صرخته التي واجه بها من تلبَّس ثورة 26/سبتمبر ، وبالرغم من أن الاستيلاء على السلطة شكل من أشكال الجشع والسرقة وهي جريمة مشددة ، إلا أن الأبشع هو الاستقواء على ذلك بالخارج أو لتمهيد الطريق أمام هذا الخارج ليستبيح سيادة الوطن ويعتدي على أبنائه ويحاصرهم ويدمر البنية التحتية ، إنها بشاعة يصعب وصف مستوى فظاعتها ومستوى استلاب واستكانة وضعف ما يسمى بالأحزاب والقوى السياسية التي سرعان ما تحولت بفعل الأحداث إلى مشردة ومتسولة في شوارع إسطنبول والقاهرة وعُمان وعمَّان ولندن وغيرها من مدن العالم والأفظع اتخاذها الرياض مقراً وهي عاصمة الدولة المعروفة بدكتاتوريتها وتبعيتها لأعداء الأمة وعدائها التاريخي لليمن والتي تحتل ما يقارب نصف أراضيه ساعدها على ذلك تآمر وتسلط المحسوبين على اليمن مقابل ما يتقاضونه من اللجنة المسماة الخاصة ويطلقون على أنفسهم زعماء ورموزا في ساحة السياسية والقبيلة.
هذا السلوك يجب الاعتراف بأنه يشكل وصمة عار في جبين من مارسه ورضي به وصمت عنه وكل ذلك يشكل جريمة لا تزال مستمرة تدل على خسة والأغرب أن ما يتقاضاه هؤلاء لا يساوي عشرة في المائة مما تنهبه السعودية والإمارات من ثروات اليمن النفطية والمعدنية منذ مسرحية شرعنة تدخل ما يسمى بالتحالف مقابل القيام بأقذر عدوان في التاريخ توزعه على أتباعها وعملائها فهل رأيتم أكثر بؤساً من هذا المشهد ؟!،
وبهذا وللإنصاف لا يجوز المقارنة بينما جرى ويجري في السودان وبين ما مارسته وما تزال تمارسه ما تسمى بالأحزاب والقوى السياسية اليمنية منذ العام 2011 أي منذ الخروج إلى الشارع ضمن ما اُسمي بالربيع العربي في خدعة انطلت على الجميع وأُطلق عليها الثورة الشعبية والتي سرعان ما سلمت الراية لمن أعلن انضمامه لثورة الشباب كما قال بعد المشاركة في مجزرة جمعة الكرامة ليتحول بقدرة قادر من شريك فاعل في نظام الفساد إلى قائد للثورة ضده ، وكانت أولى مهامه القيام بإسدال الستار على جرائم النظام قبل الثورة وخلالها ومنها جريمة جمعة الكرامة ، ثم تلقف المبادرة السعودية المسماة بالخليجية بالقبول السريع لتتحول إلى وثيقة لاختطاف الثورة (ثورة مضادة) مشرعنة بما أسُمي مؤتمر الحوار الوطني الذي أكرر باستمرار بأن من شارك فيه على ذلك النحو مدين للشعب اليمني بالاعتذار وقد فصلت الأسباب في كتابات سابقة ، ويبقى هذا رأي مهما كان مستوى صحته من عدمها ومكان تبين ذلك هو الحوار الجاد.
المقارنة بين هذا التفلت السياسي إن جاز التعبير وبين تسليم الدولة اليمنية من قبل بعض القوى السياسية للسعودية والإمارات لتفعل ما تشاء بذريعة الضرورة التي تبيح للمنفلتين سياسياً الاستعانة بالشيطان تصب بكل تأكيد في مصلحة الأحزاب والقوى السياسية والشعب في السودان التي ما تزال متمسكة بحقيقة الشرعية المستمدة من الشعب وغير مهتمة بأي شرعية يتحدث عنها من يسمون أنفسهم بالمجتمع الدولي ، ببساطة لأنهم من يمتلكون زمام المبادرة منذ بدء حراكهم الشعبي في 19/ديسمبر/2018 رغم كل محاولات اختطاف الثورة السودانية بصورة أكثر مكراً ودهاءً بإظهار العسكر انصياعهم لإرادة الشعب السوداني والقبول باتفاق مع المكون المدني على تشكيل ما أسمي بالمجلس السيادي الانتقالي تمهيداً لانتقال البلاد إلى الحكم المدني ، ولأن رئاسة المجلس بيد العسكر الممسكين بكامل مفاصل وهياكل سلطات الدولة العليا فقد انتهجوا المراوحة والمراوغة للهروب من تمدين الدولة مراهنين على سياسة الشد والجذب والترغيب والترهيب بتمويل إماراتي سعودي واضح الممولين لكل الأنظمة الاستبدادية ، وحينما وصلوا إلى طريق مسدود اتجه المكون العسكري إلى خيار الانقلاب بنفس الذرائع التي تعودت عليها السلطات العسكرية والاستبدادية في البلدان التي تعاني من الاستبداد والفساد ليصل الأمر إلى تعليق رئيس المجلس السيادي العمل بما تم الاتفاق عليه وفوض نفسه بإعادة ترقيع السلطة على مقاسه ، ومن عجائب التصريحات الممهدة تحولت المؤسسة العسكرية التي يفترض أن تكون أداة ضبط الأمن ضد أي اضطراب داخلي ، وحماية الدولة من أي عدوان خارجي إلى وصي على الدولة وترتيب نظامها السياسي ليصل الأمر إلى انقلاب المكون العسكري على المدني ويتم اعتقال رئيس الحكومة عبد الله حمدوك وزوجته !، وعدد من الوزراء والمسؤولين والقادة العسكريين الرافضين للانقلاب ويواجه من يصفه بالانقلاب بنفس الفظاظة التي تمت بها مواجهة تصريح الأستاذ جورج قرداحي لوصفه العدوان البشع على اليمن بأنه حرب عبثية ، إنها نفس المدرسة التي تبقي المؤسسات العسكرية أداة معادية لطموحات الشعوب في دولة مدنية يتم تداول السلطة فيها بصورة سلمية وبدلاً من ذلك تبقى ألعوبة يتداولها العسكر عن طريق الانقلابات والاضطرابات المتوارثة كما هو قائم في البلدان المتخلفة ، ونتيجة ذلك صار الخروج من هذه الحال صعباً !!، فهل يمكن أن تصل المجتمعات الواقعة تحت الاستبداد إلى صيغة للتفاهم بين القوى السياسية والحزبية والنخب المختلفة بما فيها العسكرية ذات النفَس الوطني يجنب بلدانها عواصف الصراعات ويلزم المؤسسة العسكرية بعدم تجاوز مهامها الدستورية والعمل على إيقاف دوامة الانقلابات والتطلعات غير المشروعة في الوصول إلى الحكم؟!
في اعتقادي أن السؤال ينبغي أن يكون محور نقاش وطني جاد تديره وتهتم به القوى الوطنية التي تمتلك قدرا من الإحساس بالمسؤولية الدينية والوطنية، وستصل بالتأكيد طال الوقت أم قصر إلى إجابة تحقق السلام وتحفظ السيادة والاستقلال إن تحلت بالقدر اللازم من المصداقية .
الحكام نيام فإذا ما سقطوا انتبهوا
والتسلط داءٌ لا يراه إلا العقلاء
في الثلاثاء 02 نوفمبر-تشرين الثاني 2021 07:10:31 م