|
إذا سألتني لماذا طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته، قلت: لا بقطعا ولا بلعل السبب يرجع إلى أن ثمة سراً في فلسفة أفلاطون، بعيداً عن فكرة تأثير الشعراء السلبي على مشروع الجمهورية الفاضلة، لكونهم يكذبون وخياليون.
ومن هذا القبيل، ولا من باب افتراض أن مفهوم الشعر لديه قد لا يشبه مفهومه لدينا، ولا أنه يقصد بالشعراء فئة من المبدعين غير الشعراء الذين نعرفهم، ولكن من حيث العموم. ولكي لا يقال إني متعال على أفكار الآخرين، أؤكد على شيء أنه أخرج من دائرة نظريته الكذابين المضللين المزيفين، أيا كان جنس أدبهم، والعبرة ألا يدخل ضمن برنامجه الجمهوري هذه العينة من الكتاب، بل ومن غير الكتاب، لأن الكذب والتضليل وهذه الأضراب مرفوضة منطقياً وأخلاقياً ودينياً وفطرياً وفي كل مناحي الحياة.
وإذن، فالشعراء ليسوا ضمن الرؤية الأفلاطونية، لأنه أراد الارتقاء بهم من طور الشعراء إلى طور الحكماء والفلاسفة، كإثبات أن الشاعر أول أطوار الفيلسوف، ويجب أن يرتقي بنفسه إلى تلك الرتبة، وبالطبع دون أن يترك الشعر بل إن الارتقاء يتم من خلال الشعر نفسه، وعليه يكون الترقي بالمضمون وليس بالشكل، وعلى اعتبار أن كل النظريات المعرفية الإنسانية لا تتناقض مع ما في الكتب السماوية من حيث أنه مبدئياً لا يمكن أن يتوصل إنسان لنظرية معرفية مهما كانت إلا إذا كانت تتفق كليا مع الكتب المقدسة، وإلا فإنها تظل في دائرة الوهم..
وبالمناسبة الحديث عن الشعر والشعراء من خلال القرآن وبرؤية قرآنية بات ديدني، فالقرآن أعطى ضوءا أخضر للشعراء في حدود الإيمان والالتزام بمحدداته الأخلاقية والقيمية، وبما لا يتعارض مع غايات القرآن العليا وعلى رأسها الصدق، وأسعى إلى تسليط الضوء على شعراء المسيرة القرآنية كتيار معاصر نشأ مع بدء الثورة الأنصارية ضد الطغيان والاستبداد الأمريكي على اليمن، وهو ممتد تاريخيا وفنيا مع الشعر المناهض للظلم منذ فجر التاريخ الإسلامي غير منفصل عنه، كما أنه، أي التيار، مرتبط ارتباطا شديدا مع الشعب، قضاياه ومعاناته وتطلعاته ويمارس الكتابة الشعرية أيضا بلغة وفكر وثقافة الشعب.
علي جاحز بالقدر الذي هو شاعر من رواد الحداثة التسعينيين وله دواوين فيها نصوص غاية في الحداثة على مستوى الشكل والمضمون جعلته في مقدمة شعراء العالم، كذلك هو ملتصق بالشعب وثقافته الأصيلة وفي الوقت ذاته لا يتناقض مع الحداثة لأنها في مفهومه منطلقة من الأصالة ولا تنفك عنها.
"أنت الحبيب وحرفي فيك هيمان"... هيمان... وأنا أحد الشعراء وبرجائي المستثنيين الذين قال عنهم القرآن: "والشعراء يتبعهم الغاوون ألا ترى أنهم في كل واد يهيمون". والوادي الذي لا أعرف سواه ولا أهيم في غيره هو واديك.
"يا منبع النور هذا الحسن فتان". إذن، فقد انتقلت النية من الاستحضار السمعي للمنشد إلى الاستحضار البصري للممدوح، ومن حضرة النبي يتم بناء النص.
"قد أنحل الشوق قلبا أنت خافقه". نحول الجسد من علامات العشق، لكن أقسى علامات العشق نحول القلب، لأنه لا يرى بالعين حتى يتم تداركه وإنما يحس من خلال نبضاته، لكن المعنى العميق في هذا الملمح أن القلب لم يعد يقدر على ضخ الدم في الشرايين، الأمر الذي أدى إلى ضعف عام في الجسد كله، وأنحل الشوق قلبا. هي من ذات "من أتى الله بقلب سليم".
لكن تعبير القرآن جاء بهذه الصيغة لكي يفرق بينها وبين "قلب مريض"، والذي يقصد به الذين في قلوبهم مرض، وهذا من بلاغة القرآن، وهي من ذات المعنى من "قال إني سقيم"، وهي أيضا من نباهة الشاعر علي جاحز، العمق ذو البنية المعرفية والبلاغية. ويبدو أن هناك حدثاً ما جللاً أسقم قلب الشاعر ولا شك أن له علاقة بالواقع السلبي في العالم والذي يعيش حالة فساد توحيدي، لأن الإحالة جاءت من هناك من واقع النبي إبراهيم الذي كان يعاني من واقعه السلبي مع قومه، وإلا فإن إبراهيم جاء ربه بقلب سليم، أي سقيم من شدة الشوق للقاء ربه، ثم لما لقي ربه قال له: رب إني سقيم بسبب ما رأيت من ضلال القوم، وهذا ينسجم مع ما سقناه في الفقرة، ومع ما سيأتي في الشطر الثاني من البيت.
"وأسكر الروح طيف منك مزدان". هذا يشكل علاقة مهمة في المعنى مع الشطر الأول وتمامه في لحظة رؤيتي إياك يا حبيب قلبي محمد تثمل روحي. وفي البناءين لدينا علاقة ثنائية بين القلب والروح الذي يعني العقل لبلوغه حالة الانتشاء باللقاء، ولو من خلال وسيطة لطيفة من اللطف هي الطيف.
"تسامر الطيف أجفان سكنت بها". تسامر الطيف. لدينا استثمار ثان لمفردة الطيف، وهو في منطق علي جاحز الخيال، هذا الخيال يأتي بعدة صيغ، بحسب ما يتطلبه المشهد ويقتضيه الحال، وينسجم مع السياق. فالطيف كلطيفة جمالية من الخيال أنسب من غيرها لحضرة الكمال الإنساني المطلق، وسكن الحبيب أجفان المسامر للساكن، فهو، أي الحبيب، في ساكن الأجفان، أي المقل المسامرة، أي القلب الخافق بالمحبوب كما في الشطر السابق، فهو السكن الساكن والقلب الخافق والرؤيا الرائية بالأجفان.
"وليس للوله النشوان أجفان". الوله في أعلى مقامات العشق. ليس الوله النشوان. النشوان في البناء السابق هو الروح، وفي هذه البنية الروح الوله النشوان، ونتيجة لهذا التناهي والتماهي والتبادؤ فمن المؤكد أن ليس له أجفان، لأن مقام الروح خارج نطاقات الإنهاكات المالحة والجريانات العذبة. في هذه البنية انتقال لطيف من مشهد مقام الأجفان في عالم المشخصات إلى مشهد مقام الوله في عالم التجريد، هذه النقلة الخفيفة لا أجد لها وصفا مناسبا، غير أنها نقلة عبقرية ترجع إلى ممارسة طويلة وخبرة في بناء الشعر من مدارات شاهقة.
"ويسبح الفكر في لج الهوى ثملا". حينما يسبح العقل في القلب تصبح فرص النجاة أكبر، وخاصة إذا أتيح له مجال للتفكر، لأن العقل يزكو بالتفكير، وخاصة إذا كان يخوض بحر الهوى النبوي المتلاطم العميق. كما أن هذا العمق والتماوج الذي لا يهدأ في القلب لا يمكن الغوص فيه بدون تفكر وتعمق، لذلك كانت هذه الدقة في التعبير. في قوله "يسبح" دلالة على التمكن من قطع أمواج البحر بخبرة، والدقة في قوله "الفكر" وفيه تعبير عن الرصانة، في مقابل تماوج الهوى وتلاطم أمواجه في القلب. ومن هذه الثنائية تولدت شعرية المشهد. الفكر الرباني الحكيم بالطبيعة والملوحة الرهبانية التي لا تكف عن بكاء العشق. لكن ماذا لو كان الحب هو الذي يسبح في الفكر في حالة صار لجيا تغشاه أمواج؟! الإجابة عن هذا يمكن أن تدرك ضمن مخاضات التأمل الموازاية لتفكيك النص.
"وأنت في مائه المملوح عذبان". العذوبة للفكر أليق، بينما الملوحة في الهوى أكثر لياقة، لأن الأولى شيمة الفكر، والثانية شيمة الهوى. ومع أني أمخر عباب هذا الهيجان العاطفي بعذوبة فكري السابح إلا أنك في ماء هواي المملوح عذبان، أي تحب من يحبك والمملوح، أي بميزان، دلالة على الأدب.
"مديح النور"
أنت الحبيب وحرفي فيك هيمان
يا منبع النور هذا الحسن فتان
قد أنحل الشوق قلباً أنت خافقه
وأسكر الروح طيف منك مزدان
تسامر الطيف أجفان سكنت بها
وليس للوله النشوان أجفان
ويسبح الفكر في لج الهوى ثملا
وأنت في مائه المملوح عذبان
لقد أسرت فؤادا وهو مرتجف
لكنه في قيود العشق جذلان
وكم قلوب صبت تهدي محبتها
إليك يا منتهى ما حاز إنسان
ترنم الوقت في ذكراك واحتشدت
على فضاء التغني فيك ألحان
تلخصت فيك أقوال وأخيلة
وسافرت فيك أجيال وأزمان
ومن معانيك حاك الكون رونقه
فأنت في ملكوت الله عنوان
الشعر فيك تسابيح مرتلة
لأن عشقك يا مولاي إيمان
وأنت في ملكوت الله آيته
العظمى، وفوق أديم الأرض قرآن
وأنت في سرة الأنوار أوضحها
وفي مكامن سر الله برهان
يا ذا الحبيب أتت ذكراك باسمة
ووجه أيامنا باكِ وحيران
محمد، يا سنا الدنيا ومأمنها
وإن بغى فوقها صفر وعربان
بعثت في يمن الإيمان ثانية
وأنت في أرضه حام وصوان
حشدت من شعبه الجبار ألوية
فنحن للدين أنصار وفرسان
هُداك نحمله زادا ونطلقه
نورا، فيحشد للتضليل شيطان
نسير في دربك الباقي نشيده
وإن تفجر درب النور نيران
تلون الأفق يا مولاي من دمنا
ولم ينل من ديار العزم خذلان
محمد، حصنت ذكراك جبهتنا
وفي شذاها انتصار ثم نشوان
وثم تستكمل البشرى مواكبها
على يديك، بها منٌّ وسلوان!
* نقلا عن : لا ميديا
في الجمعة 12 نوفمبر-تشرين الثاني 2021 06:59:39 م