|
عُرف عن الشاعر المرحوم محمد المنصور في جانب الأدب أنه شاعر وناقد رائد لما يسمى الأدب التسعيني، وذلك واضح من خلال شهادات شعراء ونقاد كبار. وعلى سبيل المثال لا الحصر اخترت مقتطفات لبعضهم لنرى من خلالهم ومن خلال قصائده التي تصف نفسها بأنها متفردة ومميزة بثقة وإبداع.
"إن محمد المنصور الوحيد الذي استطاع أن يصل إلى مبتغاه في كتابة النص النثري الطويل بتجربة واعية صقلتها المحاولات الطويلة ودفعها التصميم والإرادة وأنضجها الإصرار".
(عبدالحفيظ الخزان)
"حين يكتب محمد كنا نحس جميعا أنه مرآتنا، وهي مرآة لا تعكس واقعنا كما هو، ولكن تتغلغل إلى دواخله، إلى تلك النقاط المعذبة في أعماقنا. تجربة فريدة في عالمنا وعالم الذين يشبهوننا على امتداد الأرض.
"هذه المرايا التي لا تشعر بالليل ولا بالنهار
لا تستحق وجوهنا
هذه الأوهام المسرعة
هذه الشرفات الكسولة
هذه الرخاوة المزمنة للمسافة
تمهلنا فقط أن نجف.
هكذا هي نبوة محمد الشعرية واللغوية، لا تعرف الجمود ولا القيود ولا الزمان ولا المكان".
(الروائي محمد عبدالوكيل جازم)
"الشاعر محمد المنصور الذي فارق الحياة إثر مرض في الرئتين منذ أكثر من عام، كان قد كتب في ديوان "سيرة الأشياء" قصائد عن الموت وعن رئتيه، أقتطع من قصيدة هذا المقطع:
"تجرحنا السنون
يرحل الموت عن العالم
حين لا يهتم به أحد
رئتاي مخبأ لروائح ذابلة
تنطفئ الشمعة لتفسح مكانا للظلام
الجرح طابع بريد لرسالة الألم
كل جرح يذكر صاحبه بأمنية ما".
(الشاعر محمد محمد اللوزي)
"محمد المنصور من أوائل شعراء الحداثة الشباب في اليمن، إلى جانب بعض الأسماء الذين كانوا يشتغلون على مشاريعهم بوعي عالٍ، لذلك لا يمكن لأي باحث أو ناقد أن يتجاوز اسم المنصور".
(الشاعر عبدالمجيد التركي)
"أحد رواد ومنظري قصيدة النثر في اليمن. وكان دقيقا جدا وحذرا في تعاطيه مع الكتابة الجديدة".
(الشاعر جميل مفرح)
"يا محمد! لقد عرفت الشاعر أول ما عرفت، وعرفته آخر ما رأيت، منك وفيك، فيا أيها الشاعر المرهف، قل لي أي سيرة حياة باذخة انتزعتها من رئة الموت الذي تجاوزته حتى غدوت صورة لا تفارقها الحياة رغم مرارة الرحيل؟!".
(الشاعرة ابتسام المتوكل)
نستطيع استنباط مفهوم محمد المنصور للقصيدة الحديثة من عدة طرق، أهمها نصوصه، باعتبارها استطاعت الخروج متميزة من بوتقة النص الرتيب، وكذلك نصوصه في نقد الشعر، أو ما سماه الشاعر محمد العابد "النص الموازي" أي أن علينا قراءة شعر المنصور من عدة زوايا، منها أطروحاته النقدية، وكذلك من خلال آراء النقاد في كتاباته.
في حوار صحفي ثقافي أجراه الشاعر والناقد علي جاحز في العام 2008، مع شاعرنا الكبير الأستاذ محمد يحيى المنصور، يمكننا أن نعرف فوائد جمة متعلقة بجوانب الشعر ومدارسه وأسباب نشوئها والإحاطة برؤية كاملة حول مفاهيم أدبية عديدة منها الحداثة والتأثير والتأثر والتجديد... والحداثة برأيي هي ولادات فكرية جديدة خالقها إنسان مبدع.
ما بعد الحداثة لا ينبغي إلا أن يكون تنمية فكرية، وإلا فهو حمل خارج القلم. وفي الحوار نستكشف الرائي المنصور ومنظوراته الفلسفية العميقة التي تقوم على وعي علمي ومعرفي وثقافي، ذلك ما تصفه أطروحاته، وهي تركته، ولا يستطيع وصف صاحبه معرفيا إلا تركته، التي هي مشروعه للمستقبل. هذا المشروع وكل المشاريع الفكرية ليست أكثر من تركة فكرية لصاحبها تصبح فيما بعد ثروة ثقافية قومية وتتجاوز القومية إلى الإنسانية. والفائدة الأولى التي رأيناها في ذلك الحوار الممتع هي أنه حين تكون مرجعية الشاعر قوية تكون شخصيته متينة وقوية، هذه الشخصية في ذاتها ستكون مرجعية لشخصية إبداعية تأثرت بها، وعلى ذلك يمكن القياس.
الحوار الذي أجراه علي جاحز مع محمد المنصور حول الشعر الجديد والمدارس أو التيارات الشعرية الجديدة التي نشأت في اليمن في فترة التسعينيات، جرى خلاله استعراض الحركات الشعرية في الثمانينيات والسبعينيات والستينيات، وكذلك شعر الألفية. وفي اعتقادي هو أهم حوار أجري في تلك الفترة، ويظل مهما إلى هذا الحين، والدليل أنني أستفيد منه حتى اللحظة في أبحاثي حول الحركات الشعرية في اليمن، وخاصة شعر المقاومة والشعر المناهض للعدوان، ويلخص عدة مفاهيم، خاصة وأن الحوار جاء من ناحية مع أحد أهم شعراء اليمن في زمننا، ومن ناحية أخرى أن الذي أجرى الحوار كان علي جاحز، وهو من أهم شعراء التسعينيات أيضاً.
وقد جاء الحوار مشبعا بما تحتاجه المرحلة من إيضاحات. وكانت أسئلة الشاعر علي جاحز ذات جانبين: جانب استبطاني حواري لا يعود إلا محملا بالكثير مما في كوامن الأستاذ محمد المنصور، وجانب آخر كانت أسئلته تطرح رؤية نقدية مهمة لو بقيت بدون إجابة لأشبعت جانبها المهم. وقد حملت تلك المحاورة الأدبية الكثير من القضايا.
في الحوار الذي أجراه الشاعر علي جاحز مع الأستاذ محمد المنصور (رحمه) الله سنتوصل إلى خلاصات وفوائد، منها: أسس تكوين الشاعر المبدع وتكوين الحركات الجديدة. والجميل في الحوار أنه جاء بين شاعرين كبيرين لدى أحدهما سؤال وفيه إجابات، ولدى الآخر إجابات وفيها تساؤلات، فجاء الحديث مشبعا ومحيطا بكل ما يحتاجه المشهد الشعري. الحوار حميمي ودافئ وجدانيا تلمس فيه محبة كبيرة متبادلة بين الشاعرين ومحبة أكبر يوليانها للشعر والشعراء.
ولا يشبه هذا الحوار الجميل إلا "ثرثرات في شتاء الأدب العربي"، الذي جرى بين الشاعرين الكبيرين عبدالله البردوني وعبدالعزيز المقالح على متن طائرة ربما في الثمانينيات، نوقش خلاله أشياء كثيرة متعلقة بالشعر العربي في تلك الفترة.
ويمكن استخلاص فوائد كبرى من هذا الحديث الثنائي الجميل الذي كانت مقدمته التي صدرها جاحز كافية لتقديم نبذة عن الشاعر المنصور كرائد من رواد الشعر الحديث ومؤسس لجيل التسعينيات. وقد طرح في المحور الأول أن للمرجعية دورا مهما في تشكيل شخصية المبدع، وهذه أهم وأول فائدة تعلمناها هنا. وعلى ذلك فإن رواد ومؤسسي المدارس الشعرية في العالم لا شك أنهم كانت مرجعياتهم الثقافية والفكرية قوية ومعظمها مرجعيات علمية وفلسفية ودينية.
ويؤكد المنصور أن التتلمذ على القرآن والثقافة العربية والإسلامية هو أساس نشوء المدارس الفلسفية في العالم. وكذلك أشار إلى أن تأثير القرآن الكريم على اللغة العربية هو ما جعلها أكثر هيمنة على الحياة الثقافية والاجتماعية في العالم، وهذه فائدة ثانية، وهي أن قوة اللغة لها تأثير كبير على الفكر والتفكير.
حينما نعرف أهمية العوامل التي أدت إلى تكون الجيل التسعيني سنعرف بالتالي أهم عوامل تكون التيارات الأخرى، والإجابة على ذلك باختصار من خلال كلام المنصور وبتصرف أن القضايا والمرجعيات لدى جيل التسعينيات مختلفة عما كان لدى جيل الثمانينيات والسبعينيات والستينيات، وأن الانهدامات الكبيرة كما يقول لما سمي اليقين والقضايا الكبرى وانكسار المشروع القومي والأممي التحرري، كل ذلك أدى لتغير في الإنجاز. غير أن ثمة أموراً حصلت في اليمن كما فهمت أدت إلى ظهور هذا الجيل التسعيني بشكل أقوى مما هو عليه في الوطن العربي من ضعف، أهمها الوحدة اليمنية وحرب الخليج.
الفائدة الثالثة هي حدوث وحدة في اليمن ساهمت بدرجة كبيرة في ظهور جيل شعري تسعيني في اليمن أقوى من غيره في المنطقة العربية.
وفي السؤال نفسه تظهر لنا فائدة رابعة في المحور نفسه، وهي أن من أهم عوامل ظهور جيل التسعينيات توفر وسائل النشر الالكترونية وأماكن إقامة الجلسات والفعاليات الثقافية.
وهناك سؤال عما أحدثه جيل التسعينيات على مستوى النص الشعري في اليمن؛ فقال إن ذلك لن يتم تقييمه قبل مرور فترة تسمح باستيعاب أثر كل الموجات التسعينية. وهنا نستنتج فائدة خامسة من كلام الأستاذ المنصور وهي أن تقييم أي حركة أو جيل يحتاج إلى فترة لاستيعاب أثر كل موجاته، بما يعني أن كل حركة يكون داخلها موجات بالضرورة.
وعلى هذا فإننا لن نستطيع تقييم تأثير حركة شعراء القرآن أو الشعراء القرآنيين إلا بعد مرور فترة لكي يتم استيعاب كل موجاتها. وعلى ذلك يجب أن نبحث في مكون حركة شعراء القرآن لكي نعرف موجاتها وندرس أثر كل موجة حتى نقيم الحركة ولو بعد حين. غير أني أعتقد جازما أن تقييم حركة شعراء القرآن التي ظهرت في هذه الفترة فترة مواجهة العدوان ممكنة الآن وبنسبة كبيرة، لكون الحركة ذات مرجعية واحدة، على عكس جيل التسعينيات الذي يتسم بأنه ذو مرجعيات متعددة. لكن ذلك يحتاج إمكانيات كبيرة أهمها توفر المعلومة وأدوات البحث.
* نقلا عن : لا ميديا
في الجمعة 03 ديسمبر-كانون الأول 2021 06:42:18 م