|
يقول المثل الأمريكي إن على من يريد السلام أن يكون مستعداً للحرب... هذا هو منطق السلام لدى الولايات المتحدة التي تعد الصناعات الحربية محور اقتصادها القومي، تدور حوله كل الصناعات الأخرى وتصب فيه، عدا عن كونها الدولة الأولى عالمياً من حيث حجم الإنفاق العسكري (773 مليار دولار/ العام 2020)، بفارق شاسع بينها وبين ثاني دولة إنفاقاً وهي الصين.. وأما كيان العدو الصهيوني فهو من صفر النشأة كيان كاكي عسكري بامتياز، وبالإضافة لاقتصاد قائم على رافعة التصنيع الحربي وابتكار وقرصنة الابتكارات العسكرية الدولية والإتجار المعلوماتي وتقنيات التجسس، فإن المغتصبات -"الكيبوتزات" أو الأورام التي تتكور وتتكاثر في جسد فلسطين منذ مطلع القرن والمسماة بالمستوطنات- صممت اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً وثقافياً لتكون فقاسات وَلّادة بالوقود البشري العقائدي العسكري لا مخيمات إيواء يلوذ بها شتات مدني إنساني طريد وبلا مأوى...
إنها نواة النشأة الصهيونية الصلبة ورافعة الوجود السرطاني الناشب في لحم الجغرافيا والتاريخ، وفي رحمها تخلَّق الآباء والأبناء العملياتيون العقائديون لكيان الاحتلال (مائير، شارون، رابين، شامير مثالاً) الذين يضربون بالفأس وبالبندقية وتختلج صدورهم بالمقت الشديد لشعوب ودول المنطقة العربية والإسلامية وللبشر عموماً بوصفهم أعداءً تاريخيين لـ"البذرة اليهودية الفُضلى النقية".
وبينما تقوم العقيدة العسكرية "الدفاعية" الأمريكية على مبدأ "كل نقطة في الكرة الأرضية تمثل مصلحة أو تهديداً لأمريكا هي حدود أمريكا أو هدف لها"، فإن كيان العدو الصهيوني يطلق على الوزارة المعنية بالشؤون العسكرية بلا مواربة "وزارة الحرب الإسرائيلية"، ينسج رايته بحدود مائية مفتوحة لا يكبحها نطاق جغرافي ولا جوار ذو سيادة؛ اتساقاً مع نظرية وفلسفة النشأة الصهيونية القائمة على روايات تحريفية خرافية للتاريخ والأديان السماوية تلخصها مقولة: "شعب الله المختار- لا حرمة للشعوب الأمية ولا سبيل علينا فيها".
يمثل هذان النموذجان الفاضحان للاستكبار وعقيدة السطو والاستحواذ و"الجريمة المقدسة" أعلى سقوف العالم الحضارية الذي ينتظم تحته كل عقيدة ووجود وحضارة ونشاط إنساني على كوكب الأرض، بمفهوم "النظام العالمي الجديد". ورغم شخوص هذه الحقيقة للعيان فإن أكثرية النخب العربية والإسلامية تعتقد -عن يقين أو عن نزوع وظيفي- بأن أظافر شعوب المنطقة المستضعفة هي العائق الوحيد أمام السلام المستريح، وأن مقاومة الضحية لجلادها هو نكوص حضاري خارج العصر، وأن ثقافة المقاومة والاستشهاد هي عنف وعبث ينبغي استئصال جذوره فكرياً ودينياً وتربوياً وثقافياً واجتماعياً لتتحقق عصرنة الأمة وانسجامها مع محيطها العالمي!
"إذا أردنا أن نحيا كما أراد لنا الله أن نحيا، فهل سيكف المستكبرون أيديهم عنا بحيث لا تكون هناك حاجة للتضحية والاستشهاد؟!" يتساءل سيد الثورة... وليس بوسع مستمع عاقل أن يرد بالإيجاب: "أجل سيكف الاستكبار يده عنا"! فالحقيقة الشاخصة هي بالنقيض لذلك، والبراهين المشهودة تؤكد أن "من لا يمهر الحياة الكريمة بدمه لا يعيشها" على سطح هذا الكوكب المحشور في قمقم الاستكبار العالمي الأمريكي من أقصاه إلى أقصاه.
لكن كيف يريد الله لنا أن نحيا؟!
يجيب سيد الثورة السيد القائد عبدالملك الحوثي: "الحرية لدينا هي دين، ولا قيمة لإسلام لا تكون معه حراً كريماً..."، واتساقاً مع ذلك فإن الحرية هي خطيئة شعبنا اليمني التي استحق عليها -في نظر العالم المنافق والداجن- هذا العدوان الكوني الذي يدخل عامه الثامن استمراراً في الرهان على انتزاع هدف مستحيل هو "تركيع شعبنا".
نحن أحرار لأن ثقافة التضحية والاستشهاد تجري في دم جيلنا الراهن الذي أدهش العالم بما قدمه من صور فارقة ومعجزة في الاستبسال والمواجهة بهامة شاهقة وأقدام حافية، انطلاقاً من سطوع موقفه الحق وسطوع باطل المعتدين المحاربين تحت راية الاستكبار الأمريكي و"التطبيع مع الكيان الصهيوني".
بالسياق المقارن والقاطع السابق، يزهقُ سيد الثورة منطق القائلين: "الكل يزعم أن الله معه"... لا لبس أن مجاهدينا هم المجاهدون في سبيل ألا يستعبد شعبنا لغير الله، وأن المقاتلين تحت راية تحالف العدوان يقاتلون تحت راية أمريكية صهيونية غير مواربة ولا تخطئها الأعين ولا تتحرج دول العدوان ومرتزقتها وعملاؤها من رفرفتها بجلاء، بل تباهي بها وتكاشف بمرجعيتها لها في علن المشهد.
لا لبس أن شهداءنا هم الشهداء عند الله، وشتان بين من يُقتلون دفاعاً عن ترابهم الوطني وكرامتهم وحريتهم واستقلالهم، وبين من يُقتلون في ركب الغزاة والمعتدين القادمين من وراء الحدود أجناساً وعرقيات وشذاذ آفاق لا خصومة لهم مع شعبنا ولا دافع لعدوانهم عليه سوى الارتزاق البيِّن والولاء الجلي لأعداء الله وأعداء الحرية التي فطر الله عليها عباده وأمرهم بصونها من تعبيد المستكبرين والطغاة.
وبين أن نرفض التعبيد ونبذل النفوس والنفيس في مواجهته، من جهة، وبين أن نقبل به ونذعن لشروطه وإملاءاته من جهة مقابلة، يتمظهر الفارق بين السلام والاستسلام، ويقطع سيد الثورة مجدداً: "نحن رجال السلام، وأما الاستسلام فلا رجال له، بل دواجن".
وأما عقدة السلام، فهي في يد المعتدي الذي عليه أن يكف عدوانه وينهي حصاره وتجويعه لشعبنا فيتحقق السلام، وأما عقدة الحرب فهي في يد المدافع عن شعبه وبلده، ولن يهدأ للمعتدي بال حتى يقر بحرية هذا الشعب واستقلاله ويرفع يده عن سمائه ومائه ولحمه وخبزه وحليب صغاره وكراسات تلاميذه... وعلى هذا الدرب استشهد من استشهدوا صادقين عهدهم مع الله، وعلى ذات الدرب يجاهد من يجاهدون اليوم وغداً ولا يبدلون تبديلا.
إن الشهادة هي ذروة الكمال الإنساني التي يبذل الإنسان السوي على مذبحها حياته حين يكون الخيار الآخر أن يبذل حريته... ويقبل راضياً أن تنتزع نفسه ولا تنتزع الحرية من قيمه وأخلاقه، وهو الأمر الذي يجهله تحالف العدوان في شعبنا اليمني المؤمن الحر الشريف، فيتمادى في عدوانه طلباً لما ثبتت استحالته حتى لدول تواطأت معه وتشهد اليوم على فشله الذريع في تحقيق غايته وتنصحه بـ"وقف الحرب".
يمكن القول إن إطلالة سيد الثورة في الذكرى السنوية للشهيد، هي أثمن ما شهدته برامج الذكرى من فعاليات لم تجترح أفقاً ثورياً فارقاً في الاحتفاء يليق بمقام الشهادة وعظمة الشهداء وحجم تحديات اللحظة الراهنة... يقول سيد الثورة: "علينا أن ننطلق بروحية ثورية إيمانية لا حدود لبذلها على درب الشهادة"، ويعتبر شحة البذل مؤشراً على نقصان القيمة الإنسانية للشحيحين، فما يكافئ مقام الشهيد قد تحقق عند ربه في صورة رضوان وحياة أبدية لا موت فيها ولا برزخ بينها وبين نعيم الله بمصداق آياته وقرآنه.
وإنما البذل ممن لم يقض نحبه هو اللحاق بدرب من قضى ووفى عهده جهاداً في عالم لا ضمانة فيه لراكن إلى دعة العيش الدنيوي، أو متثاقل إلى الأرض غير ناهض بأثمان الحرية والحياة الكريمة.
نفخت كلمة سيد الثورة الروح في ثنايا الذكرى في واقع رسمي يجتر مواته القديم في لبوس جديدة لا تنبض خلفها روح وثابة مواكبة لسخاء وبسالة مجاهدينا وشهدائنا... واقع رسمي تستضيف كشوفاته الشهداء الأحياء في خانة الوفيات وتتفضل على أسرهم العزيزة "من لم يسقط منهم سهواً" بما هو أقل من حق، فيما يبذل الميسورون من أسر الشهداء على طريق الجهاد أضعافاً مضاعفةً ولا يمنون على الله.
وأما الجرحى فتحسبهم الحكومة والمعنيون أغنياء متعافين من التعفف والجلد... لا يسألونها إلحافاً، ولا ترى فيهم إلا سنارة لتجارة الأدوية والمستلزمات الـ"مضروبة".
نحن نكرم أنفسنا بتكريم ذكرى الشهيد الذي يستبشر لحاقنا بنعيم ما فاز به بينما نضن عليه بحطام ما تركه خلفه من دنيا.
أيها الموتى، لا تتفضلوا على الأحياء بالمراثي، ولتضعوا أحذية الشهداء على رؤوسكم، فلولاها لكانت رؤوسكم ورؤوسنا جميعاً تحت أحذية الغزاة والمحتلين.
إن الحياة، كما يؤكد قرين القرآن وسيد الثورة، هي إحدى اثنتين: "... رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" صدق الله العلي العظيم.
بين يدي السياسي الأعلى
سيكون من المناسب إنشاء متحف للشهداء يضم مستلزماتهم الشخصية ووصاياهم وسيرهم ومآثرهم، يتم تصميم مبناه بجدارية تجمع الشهداء الرموز، وتجسد بالنحت واللوحات التشكيلية بعض أبرز ملاحم وبطولات العظماء التي أبهرت العالم.
* نقلا عن : لا ميديا
في الأحد 19 ديسمبر-كانون الأول 2021 11:11:03 م