|
يجري الآن في مدينتي نيوم وتبوك شمالي بلاد الحرمين تصوير أحداث فيلم ” محارب الصحراء ” حول معركة ذي قار التي وقعت في أول القرن السابع الميلادي جنوبي العراق ، في منطقة الكوفة ، بين القبائل العربية بقيادة قبيلة بكر بن وائل والفرس . وخلفية الحرب الخلافُ الذي حدث بين المنذر بن النعمان ملك الحيرة وكسرى أبرويز بعد أن رفض الأول طلبا للثاني بأن يزوجه ويزوج عددا من الفرس عدة نساء من قريباته ، منهن ابنته هند ، وتساءل في رفضه : ” أما في مها السواد وعِين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته ؟! ، وكان وفد كسرى مؤلفا من رجل فارسي ورجل عربي هو زيد بن عدي المترجم في إيوان كسرى ، فسأل الفارسي زيدا ترجمة لكلام المنذر ، فترجم له ” مها ” و ” عِين ” ب ” كاوان ” التي تعني (البقر) في الفارسية . وتلك كانت ترجمة خبيثة استهدف زيد منها الانتقام لأبيه عدي الذي قتله النعمان ، وما كان خافيا عليه وهو العربي ما في كلام النعمان من ثناء على بقية نساء العراق الذي يوصف بالسواد لغناه بالخضرة والشجر ، وعلى نساء فارس، فالعرب في مألوفها أن تشبه المرأة الجميلة العينين الواسعتهما والطويلة العنق بالمها ، جمع مهاة ، وهي الغزال أو البقر الوحشي، و”العِين” جمع (عيناء)، وهي الغزال أو البقرة الوحشية أيضا.
واستاء كسرى من النعمان استياء عظيما ، فكيف يوجهه إلى الزواج ببقرة وهو الذي يحكم في الحيرة باسمه ؟! فطلب حضوره الفوري، فخاف، ولجأ بنسائه وماله وسلاحه إلى القبائل العربية مستغيثا مستجيرا ، فلم يجره إلا هانىء بن مسعود الشيباني إلا أنه نصحه بالذهاب إلى كسرى فإما عفا عنه وإما قتله ، وفي الحالين لن يكون فيما قد يحدث له أيما مس بشرفه ، ووعده بأنه سيحافظ على نسائه محافظته على نساء بني شيبان الذين هم أحد بطون قبيلة بكر بن وائل ، فاستصوب المنذر النصيحة مع ما في نفسه من خشية من مآلها، وقتله كسرى قتلة حولها طريقتها خلاف. وإيجاز ما حدث بعد ذلك : طلب كسرى من إياس بن قبيصة الطائي الذي خلف النعمان على الحيرة أن يوجه إلى هانىء بتسليم وديعة المنذر لترسل إليه، فأبى هانىء ، فاتجهت الأحداث في مسار لن ينتهي إلا بالحرب ، وراسل بنو شيبان بعض القبائل العربية ، وتراسلت بقية بطون بكر بن وائل في ما بينها ، وعزموا جميعا على مقاتلة جيش أبرويز ومن معه من القبائل العربية التي كان يقودها إياس بن قبيصة ، وفي تاريخ المعركة أن إياسا وبعض هذه القبائل مثل
طيء والعباد وإياد قبيلة إياس كانوا يتمنون هزيمة الفرس ، فراسلوا القبائل العربية المتهيئة لقتالهم ، ووعدوهم بأنهم سينسحبون من المعركة في الوقت الذي يرونه مناسبا حاسما ، وهو ما كان ، وحملت بكر ومن انضم إليها من العرب على جيش أبرويز حملة صادقة انتهت بنصر عظيم ما كان في حسبانها أنها ستنجزه على إحدى أقوى امبراطوريتين في المنطقة في ذلك الزمان ، الفارسية والرومانية ، وكان العرب حتى بعد الإسلام يخشون محاربة الفرس ، ويفضلون محاربة الروم . وبعد المعركة أسرع إياس على فرسه ” الحمامة ” إلى أبرويز، وبشره كاذبا بالنصر ، وانصرف من لحظته قبل أن يأتي أبرويز النبأ اليقين الفاجع .
تنتج الفيلم شركة سعودية مع شركتي إنتاج عالميتين هما “جي بي بكتشرز”، و “إيه جي سي استوديوسك”، ويخرجه البريطاني روبرت ويات ، ومن الممثلين فيه أنتوني ماكي ، والسوري غسان مسعود في دور النعمان بن المنذر ، والبريطانية عائشة هارت في دور هند ابنة المنذر . ورصد له 140 مليون دولار. وهدف الفيلم واضح ، وهو بيان أن العرب والفرس أعداء من قديم الزمان ، وأن في إمكان العرب اليوم أن يهزموا الفرس مثلما هزموهم قديما ، وكيف لا يهزمونهم وهم اليوم 22 دولة بعضها غني مثل بلاد الحرمين ، وأين هم من القبائل العربية القليلة والفقيرة والمتفرقة التي نسي أكثرها دواعي تفرقها ، وواجهت الفرس قوة واحدة .
والهدفان شريران متخلفان مضللان ، ولا علاقة لهما بأي عروبة حقيقية عاداها النظام السعودي طول تاريخه مظهرا أنها مناقضة للإسلام، وسخر من دعاتها القوميين العرب فوصفهم ب ” القومجيين ” ، وعداؤه للعروبة دفاعا عن الإسلام ما كان إلا نفاقا وتسترا على هويته القبلية الضيقة المتحجرة ، فالإسلام الحق لا يعادي قومية المعتنقين له. ودائما وقف النظام مواجها ومخربا لأي توجه وحدوي عربي ، وتآزر مع إسرائيل في الإجهاز على الوحدة المصرية السورية في ستينات القرن العشرين . وكل مواقفه لم تكن يوما في نفع العرب والمسلمين، بل في ضرهم ، ومؤازرة أعدائهم عليهم . ما هوية من يصنف حماس وحزب الله العدوين اللدودين لإسرائيل حركتين إرهابيتين ؟! وما هوية من يقتل اليمنيين ويحطم عمرانهم ويفرق وحدتهم في حرب عدوانية اقتربت من ابتداء عامها الثامن ؟!
أي عروبة حقيقية لمن يزعم أهل الشام بقايا روم وتتار ؟! وأي عروبة لمن يتعاون مع إسرائيل في كل شيء ويترقب اللحظة المواتية للقفز إلى قطار التطبيع الرسمي معها ؟! ما من علاقة للفيلم بالعروبة والعرب كأمة واحدة ، وهدفه الفعلي الأول تبرير عداء النظام السعودي لإيران وثورتها الإسلامية منذ انفجارها في 1979 مخافة أن يقتدي بها شعب بلاد الحرمين وسائر الشعوب العربية والإسلامية لإزالة حاكميها التابعين للغرب ، وإقناع مواطني بلاده وسواهم من العرب والمسلمين أن ذلك العداء امتداد لعداء قديم بين العرب والفرس أ وأنه لا أمل في أي خلاص منه، في إلغاء كاسح لإسلام الفرس الذين يسمون الآن إيرانيين ، وهي تسمية منصفة للشعوب غير الفارسية، ومنها العرب، التي تكون الأمة الإيرانية اليوم، ووأد لحقيقة أن عرب اليوم الواعين يختلفون كليا عن عرب ما قبل الإسلام الذين كانوا يصنفون بعضهم قبليا . العروبة اليوم انتماء ثقافي لا عرقي، ولو اتخذنا العرق معيارا لها فكم سيكون عدد عرب اليوم ؟!
ومن أهداف عداء النظام السعودي لإيران شغل شعب بلاد الحرمين بقضايا خارجية مزيفة ملفقة عن مشكلاته الداخلية ، ومنها حرمانه التام من حقوقه السياسية . النظام المهموم بقضايا شعبه الحقيقية يركز اهتمام هذا الشعب على هذه القضايا . والدول التي يصنع سياستها الخارجية قادة واعون مؤهلون بكفاءتهم القيادية في إطار نظام مؤسسي عصري ؛ لا تنصرف لتخليد عداوات ومعارك قديمة مع الدول الأخرى ، وتفتح الأبواب لمواصلتها . لو انصرفت الدول الأوروبية لتخليد عداواتها وحروبها الكثيرة المهلكة لما كانت في ما هي فيه اليوم من وئام وتعاون منظم منسق في السياسة والاقتصاد والأمن ، وامتد وئامها وتعاونها فشملا أميركا وكندا ودولا خارج أوروبا ومن غير تاريخها وثقافتها . فيلم “محارب الصحراء” عن معركة ذي قار جاهلية سينمائية في ثوب فني عصري خادع ، أين هي من استثمار القوميين العرب لها حين رأوها آية مبينة لوحدة الشعور القومي المبكر لدى العرب لا برهانا على عراقة عداء العرب والفرس ، وكان ذلك الاستثمار زمن شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي كان متطرفا في نزعته الفارسية ، ومصادما أحيانا للعرب والعروبة.
والحكمة تقضي بألا تعادي من لا تستطيع مصادقته ، وإيران تلح دائما على الصداقة مع كل العرب والمسلمين ، وتخص النظام السعودي بقدر كبير من هذا الإلحاح ، فيجري معها مفاوضات لتحسين العلاقة معها ، ولكنه في صميم نواياه ليس صادقا في النزوع إلى تحسينها ، ويفضل مواصلة معاداتها لما بيناه من أسباب ، وانسجاما مع سياسة أميركا والدول الأوروبية الغربية وإسرائيل ، وفيلم ” محارب الصحراء” وسيلة من وسائل مواصلة تلك المعاداة ، والحصاد دائما من جنس النوايا والتدبير ، ومن يزرع الشوك يجنِ الجراح . واسم الفيلم نابع من ذوق غربي ، ومدلول هذا أنه من اختيار الأطراف الغربية التي تقوم فيه بكل النواحي الفنية ، وهذه الأطراف ترى كل شيء عربي انطلاقا من الصحراء وما ترمز إليه من تخلف وتوحش وبداوة واستبداد حكام ، ونفط وغاز ، وهكذا سميت حرب تحرير الكويت ” عاصفة الصحراء “، وانساق النظام السعودي مع تلك التسمية ، فسمى عدوانه على اليمن ” عاصفة الحزم ” التي أسقطته في هاوية لا مخرج في الزمن القريب منها.
كاتب فلسطيني
* نقلا عن :رأي اليوم
في الأحد 20 فبراير-شباط 2022 07:08:47 م