مناهجنا التعليمية الشرعية على ضوء ملاحظات الشهيد القائد
د.حمود عبدالله الأهنومي
د.حمود عبدالله الأهنومي

ندب الله المؤمنين إلى تقييم وضعياتهم، والنظر في أحوالهم، والاعتبار من غيرهم، قال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر:2]، وليس هناك أكثر حاجة ملحة للتقييم والمراجعة من مناهجنا التعليمية؛ حيث هي حجر الزاوية في بث الثقافات وصناعة الاتجاهات ولها أثر على نهضة الأمم سلبا وإيجابا، فجودة التعليم وجودة مناهجه في بلد ما كفيلة بتطوير ذلك البلد، ولو في مجال معين، وضعف التعليم ومناهجه يترك آثارا خطيرة في واقع الأمم، وفي اتجاهاتها، ومساراتها، وإعاقتها.
من المهم جدا التفقد لمناهجنا التعليمية والإرشادية وإقامة الدورات والورش والندوات حول تطويرها، ولا أظن عاقلا اليوم يمكنه أن يزعم أننا لسنا بحاجة إلى هذه المسألة، فالجميع يوقن بأهمية التطوير للمناهج، ومؤشر ذلك أنهم يضعون مقررات جديدة، في علوم مختلفة، يرون أنها باتت هي الأفضل من الكتب السابقة لها.
نقصد بالمناهج التعليمية ما يقصده علماء التربية والمناهج اليوم، وهي جميع المضامين العلمية والثقافية لعلم من العلوم، أو فن من الفنون، أو معرفة من المعارف، بالإضافة إلى طرق تقديمها ووسائلها وأساليبها، وكل ما يتصل بذلك من أدلة المعلمين، وعمليات التقويم والتقييم، بالإضافة إلى أهداف تلك العلوم والفنون والغايات الاستراتيجية والمرحلية والسلوكية، والمبادئ والأسس والفلسفات التي تبنى عليها المناهج عادة.
ستبحث هذه الورقة في جزئها الأول، واقع المناهج التعليمية الشرعية في المراكز الصيفية والدورات المؤقتة، وفي المدارس التقليدية والهجر العلمية، ثم عرضا تحليليا لتلك المناهج مع تقديم المقترحات والحلول على ضوء كلام الشهيد القائد- رضوان الله عليه -وأهمية إعادة الاعتبار للنص القرآني في المناهج، وذكر أسباب ذلك، ثم الإشارة باختصار إلى ملاحظات الشهيد القائد حول مناهج مادة علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، وبعض العلوم والفنون الأخرى، على أن يتم التفصيل أكثر في مناهج هذه المواد في الجزء الثاني، بإذن الله الذي سيصدر تباعا بعد هذا الجزء.
لقد اتبع الباحث في هذه الورقة المنهج التحليلي الوصفي في تجميع المعلومات حول الموضوع الواحد، وتحليلها، وتصنيفها، واستخلاص الرؤية المقترحة منها.
ستقتصر هذه الورقة على نقد المناهج التعليمية الشرعية التي تُدَرَّس في المدارس والمراكز والمساجد، سواء منها مراكز التدريس المؤقتة ممثَّلة في الدورات الصيفية والدورات والورش التي تستمر أياما أو شهرا أو حتى شهورا، ومراكز ومدارس التدريس المستمرة، وتتمثل في المدارس والمراكز التقليدية، التي تنشط طوال أيام السنة، ما عدا أيام العطل، وعادة تستمر سنين عديدة، ولا توقيت محدد لها، بل ذلك يخضع لاهتمام الطالب ومثابرته.
مراكز التعليم المؤقت والقصير
في ما يتعلق بالجانب الأول – وهي المراكز والمدارس المؤقتة بأيام أو بالعطلة الصيفية، أو الدورات الثقافية – فعلى أهميتها القصوى، ونتائجها المثلى، وكونها تصنع تغيرات سلوكية واتجاهات فكرية ووجدانية على مستوى الفرد والجماعة، لكن ما يجب أن نلتفت إليه، هو أنها ليست كافية؛ لأنها أولا مثل المدارس التقليدية لا تنبثق عن رؤية شاملة، تضعها ضمن السياق التعليمي للبلد، من مدارس رسمية، وجامعات، ومراكز، ولا عن رؤية استراتيجية شاملة، تتضمن الأهداف الاستراتيجية، والمرحلية، والمبادئ والأسس، التي يجب أن تشتق منها مضامين مناهج تلك المراكز والدورات. كما أنها لم تُطَوَّرْ بالشكل اللازم بالاستفادة من الوسائل والأساليب والإدارات الحديثة، مثلها مثل المدارس التقليدية.
وهي بمثابة (سندويتشات) خفيفة، سريعة الفائدة، سريعة النسيان، تفيد المتعجِّل، وصغار السن، وتعطي ثقافة أساسية مهمة، وقد تصنع الاتجاه الإيجابي في المتعلم، ولكنها في نهاية المطاف بسبب قصر وقتها ومحدودية منهجها لا تلبي حاجة المجتمع من فقهاء، وعلماء، ومفتين، ومرشدين، ومبلِّغين، وقضاة، وأمناء، وهي للمواكبة أكثر منها للبناء، وإذا سمِّيَتْ دوراتٌ بدوراتِ بناء، فهي تبني في جانب معين، فمثلا قد تبني بعض الدورات في جانب الثقافة القرآنية، ولكنها لا تبني الشخصية العلمية المتكاملة التي تكون مرجعا في اللغة العربية والفقه والقضاء والفتيا والرد على الشبه الفكرية والتاريخ والسيرة والبحث العلمي بالشكل المطلوب.
من أسوأ ما يذكر هنا أن كثيرا من المتخرِّجين منها لا يصلون إلى مرحلة الإجادة في تلاوة القرآن، ومن المعيب جدا أن يدّعي الرجل بأنه قرآني، وهو لا يجيد قراءة القرآن بشكل صحيح.
وفي هذا السياق، من المفيد التذكير بأن جمهرة واسعة من علمائنا يغادروننا إلى الله تعالى وليس هناك مَنْ يسدُّ مكانهم، والفراغ الذي يَخْلُفُونه مِنْ بعدهم، وهذا أمرٌ معلومٌ لنا بالضرورة، وهذه مصيبة، وإذا كنا بحاجة إلى تطوير مناهجنا التعليمية الشرعية التي تُخْرِجُ علماءَ موسوعيين ومبلِّغين ومرشدين وقضاة وأهل فتيا يحملون الثقافة القرآنية، ويتحملون المسؤولية في الإسلام، فإن هذا لا يعني التنكر الكامل لمسيرة العلم والعلماء، وترك كل تلك المعارف وراءنا ظهريا، واعتبارها نسيا منسيا، كما قد يرى البعض، لأن هذا سينتج خللا كبيرا في ميدان العلم والمعرفة.
ولا يخفى على أحد انتشار ما يمكن تسميتها ظاهرة المعاداة أو الانتقاص من العلوم الشرعية التقليدية التي مضى عليها السلف والخلف في أوساط بعض المؤثرين في الساحة الثقافية، وقد يصل الحال ببعضهم إلى الطرح المُنَفِّر عن تعلُّم العلوم الشرعية التي تحتاجها الأمة في يومياتها، بل سمعنا بأن البعض بات يطرح عبارات مثل: «احذروا الفقهاء»، وهي عبارة خاطئة بقدر ما تثير العصبية الممقوتة في دين الله، تُبَيِّنُ أنه يجب على قائلها أن يعرف أن لفظة الفقه والفقيه والفقهاء في عصور الإسلام القوية كانت تحمل مدلولات قوية، والفقيه، كما قال الإمام علي عليه السلام «الْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ»، ولما تدهور وضع المسلمين تدهورت معه دلالات ومفاهيم مصطلح الفقيه والفقهاء.
ومع ذلك فهذا لا يعني الإعراض عن النقد العلمي الذي عرفناه في الثقافة القرآنية حول تعامل بعض الفقهاء، وطرائق تأليفهم، وتناولهم للقضايا بطريقة تجزيئية، فَصَلَتِ الجانبَ المعرفي الذهني فيها عن الجانب الوجداني والنفسي، وتناولها الشهيد القائد بالنقد والتوضيح، داعيا في ذات السياق إلى الاستفادة من المنهجية والأساليب القرآنية في طرح القضايا الفقهية بطريقة شاملة ومترابطة وتخاطب الذهن والروح والنفس معا، كما سيأتي الحديث عن ذلك.
من الجيد والمهم أن يتم وضع استراتيجيات تعليمية عامة مبنية على فلسفتنا الثقافية والأخلاقية وثقافتنا القرآنية لهذه المناهج، وتشتق الأهداف التعليمية الكبيرة، التي لها علاقة بالغاية العظمى، وهي الحصول على رضوان الله، وتبليغ رسالات الله وخشيته وحده، ووضع الوثائق الأساسية لبناء المناهج التعليمية، في مختلف المراحل، ووضع مصفوفات لكل مرحلة، ثم ترتيب وضع المراكز والدورات المؤقتة ضمن عملية التعليم العامة في البلد، بحيث تكون مكمِّلاً لها، لا منافسا، ولا بديلا.
لا مناص من أن تكون هناك رؤية شاملة لعملية التعليم الشرعي والرسمي في اليمن، بحيث تكون العملية التعليمية بجميع عناصرها ذات أهداف، ورؤية واحدة وشاملة ومترابطة، ترتب التعليم الرسمي والشرعي المستمر والمؤقت ضمن خطة واحدة وسياق واحد، يتنوع ويتوزع ويتكامل مع بعضه، فالتعليم الشرعي يصنع الرؤى والاتجاهات العلمية المعاصرة، بحسب الرغبات والميول لدى طلاب العلم.
وحينئذ ستكون الثمرة أكبر، والنفع أعم وأسرع وأجدى، وكل شيء يؤتي أكله بما يوفق الله، وقد صدق الشهيد القائد عندما قال: «متى ما كانت رؤى الناس صحيحة يكون هذا مما يفتح عليهم العلم، علما واسعا جدا، بل يصبح الكون كله كتابا، كل شيء أمامك كتاب، كل شيء يعطي علما، كل شيء يعطي معرفة».
وما من شك في أن هناك دورا مهما يجب أن تضطلع به الدولة ممثلة في المؤسسات التابعة لها ذات العلاقة بالتعليم، ومنها وزارات: التربية والتعليم، والتعليم الفني، والتعليم العالي والبحث العلمي، والإرشاد، وهيئة الأوقاف، فإحياء الدور العلمي العام والمنظم هو مسؤولية الدولة بالتعاون مع العلماء العاملين والمرشدين الربانيين، ويحتاج الأمر إلى عملية تنظيم وتحفيز وتمويل، وقد أثبت التاريخ في مرات عديدة أن بإمكان المجتمع تمويل العملية التعليمية، وخلق البيئة الحاضنة لها، ومن تلك الجهود التعليمية المجتمعية ومراكز العلم المجتمعية وهِجَرِها تخرَّجَ أعلامُ الهدى الربانيون، والقادة المصلحون، والعلماء والقضاة والمفتون والخطباء والمرشدون.
ليس طبيعيا أن تظل المدارس التكفيرية مفتوحة على مصراعيها بحجة الحريات ونحن نقف موقف المتفرج أمام الفراغ الذي يتركه العلماء الربانيون من علماء آل محمد حينما يغادروننا إلى الله، وليس طبيعيا أن نترك الساحة لمن يُقَدِّم العلم والدين منقوصا وضعيفا وبعيدا عن المسؤولية في الإسلام، وعلى أنه مجرد قراءة وشيء من العبادة والمعاملات الشخصية، بل لا بد من أخذ زمام المبادرة والاستفادة من الثقافة القرآنية والمنهجية والطرق والأساليب القرآنية في إعادة صياغة المقررات التعليمية وتطويرها، وإلى أن يحصل ذلك الأمر يمكن أن يستمر التدريس والتعليم بطريقة نقدية، كما كان قد اقترح الشهيد القائد فعل ذلك.
وفي وصية لقمان لابنه ما يرشدنا في مجال التعليم الأساسي والمراكز الصيفية، حيث بيَّنت الوصية أهمية غرس المعرفة الصحيحة في الأبناء حول توحيد الله وعدم الشرك به باعتبار تلك العقيدة تمثل الأساس الرئيس لبناء الشخصية السوية فكريا، وغرس عظمة الله وخشيته وأنه لطيف خبير بعباده، ثم تعليمه إقامة الصلاة باعتبارها حلقة الوصل اليومية بين الله وعباده، ثم التركيز على الجانب العملي وتحمُّل المسؤولية، وأن يكونوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر والصبر على ذلك، وهذه دائرة واسعة، والتركيز على حمل قضية الدين، ونصره، وهي قضية قدَّمَها القرآن على أنها من الأشياء التي يجب أن يوصي بها الآباء أبناءهم في مرحلة التربية، ثم تعليمهم الجانب الأخلاقي وكيفية العلاقة مع أبناء جنسهم، والتعامل معهم بعيدا عن الخيلاء والفخر والتهور والكبر.
يتبع في الحلقة القادمة.


في الإثنين 28 فبراير-شباط 2022 08:26:27 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=5009