|
(4) – (طبيعة العلاقة)
في عملية البحث عن المشكلات نبحث دائماً عن العلاقة بين أطراف العمل محل المشكلة ، لأن العلاقات في العلوم الإنسانية لها موقع محوري في التعرف على أصل المشكلة وحجمها وإمكانية حلها وكيفية هذا الحل وأدواته! ، والقاضي والمحامي طرف واحد وإن بدا أنهما طرفان وفي قضية واحدة كبرى هي قضية البحث عن تحقيق العدالة كل من موقعه وحسب الوقائع والأدلة ، وما يبذله من جهد خلال أداء المهمة الموكلة إليه وما يواجهه من عوائق ومطبات ، وكلاهما بأجر، إلا أن أحدهما القاضي يأخذ أجره من موكل عام هو المجتمع تمثله السلطة القضائية (كمرتب شهري ومكافآت ونحوهما) والثاني المحامي يأخذ أجره من موكل خاص وهو المدعي أو المدعى عليه ، المتهم أو المجني عليه ويطلق على ما يأخذه (الأتعاب) ، وأيا كانت الفوارق بين الأجرين ومن يدفعها وكيفية الدفع فإن ذلك لا يغير من أمر كون القاضي والمحامي في جبهة واحدة، صحيح أن كسب القضية بالنسبة للمحامي هدف أساسي ليس فقط بالنظر لما يتقاضاه من أتعاب من موكله وإنما لما تعنيه هذه المهنة في وجدان المجتمع القويم ، والحديث هنا عن المحامي الذي يدرك ماذا تعنيه مهنته ويحترم مكانتها ، ولا أطلب منه التحلي بأخلاق الملائكة وإنما بأخلاق الإنسان الذي يحترم مهنته ويجلّها لتلقى من الآخرين نفس الدرجة من الاحترام والإجلال وأساس هذه العلاقة الواقعية هو الالتزام بما عليه من واجبات مقابل ما له من حقوق لأن حصوله على الأتعاب المتفق عليها وبخاصة القسط المؤجل دفعه لحين انتهاء القضية أو حسب الاتفاق غالباً ما يمتنع الموكل عن دفعه خاصة إذا لم تنتهِ القضية لمصلحته وهذه المسألة لم توضع لها في بلادنا ومن في مستواها -إن وجد- ضوابط تفصيلية واضحة تضمن عدم الإخلال بالحقوق والواجبات في العلاقة بين أطراف أرقى المهن لأن ما يقدمه المحامي لموكله هو الحكمة والخبرة والتزامه شأنه شأن الطبيب التزام ببذل عناية وليس بتحقيق نتيجة والسعي بشرف من أجل الوصول لحكم عادل.
ولهذا، ففي البلدان التي ارتقت بنظامها القضائي إلى درجات أفضل يدخل تحصيل أتعاب المحامي ضمن المهام الإدارية للمحكمة كي لا ينشغل بحقوقه ولا يخشى ضياعها بل ينصبُّ همه وجهده كالقاضي وربما أكثر باتجاه بذل أقصى درجات العناية في أداء واجبه ، وهذا أسلوب حضاري راقٍ يحافظ على مكانة المحامي باعتبارها من مكانة القاضي والقضاء فلا يوجد قضاء محترم لا تحترم فيه مكانة المحامي ، ولا تسمو مهنة المحاماة في ظل قضاء لا يتمتع بالمكانة اللائقة بمكانة العدالة سواء من الناحية المادية أو المعنوية، هذا الترابط الوثيق في العلاقة بين مكانتي القاضي والمحامي ، يشغل بال القاضي النزيه الحريص على العدالة ، كما يشغل ذهن المحامي الملتزم بشرف مهنته لإدراكهما طبيعة العلاقة العضوية التي تجمعهما.
البقية صـ5
ومن الأمثلة الواقعية على ذلك : تحرك المحامين الباكستانيين المعروف بحركة إعادة القضاء أو احتجاجات المعطف الأسود التي حشدت جماهير واسعة رفضاً لقرار رئيس باكستان الأسبق وقائد الجيش برويز مشرف غير الدستوري في 9/مارس2007 بوقف افتخار محمد شودري عن منصب رئيس قضاة المحكمة العليا الباكستانية، حيث أعلنت نقابة المحامين أن عزل القاضي اعتداء واضح على استقلال القضاء والتفَّت حول موقف نقابة المحامين عدة أحزاب سياسية ، ورغم انصياع مشرّف للحركة القانونية المدنية بإعادة شودري في 21/يوليو2007 وصدور حكم من المحكمة العليا ببراءته من كل التهم المنسوبة إليه إلا أن المحامين واصلوا احتجاجاتهم وإعلان أفعال مشرّف وحكمه غير قانونية واتخذوا عدة خطوات قانونية ودعاوى في مواجهته ، واستمرت المواجهات والفعاليات إلى أن استقال في أغسطس 2008 ، طبعاً نتحدث هنا عن قضاة مختلفين وأحزاب مختلفة وكذا سلطة سياسية، عن كثير من القضاة والأحزاب والسلطات في بلدان كثيرة لم تصل إلى هذا المستوى من الوعي بأهمية التمسك بمبدأ سيادة القانون.
هذا نموذج من نماذج تكامل هَمِّ الساعين إلى الحرية المتمسكين بمتطلباتها وهو همٌّ إنما يولد من رحم المجتمعات الحية القادرة على الدفاع عن حريتها وكرامتها وحقها في البقاء في ظل دولة مدنية قوية بعدلها واحترامها لكل الحريات والحقوق وليس بطغيانها وجبروتها.
أرى الحقَّ أمضى من السيف * من زمجرات الطغاة الخون
له صولةٌ في ضمير الشعوب * يغالب في السرِّ أو في العلن
في الثلاثاء 15 مارس - آذار 2022 06:33:34 م