|
كانت لتركيا دائماً علاقات مميزة بباكستان منذ استقلالها عام 1947 عن الهند. وهناك عدد من القواسم المشتركة بين تركيا وباكستان، أهمها الانقلابات العسكرية (عددها أربعة في كل بلد) المدعومة أميركياً، وإعدام العسكر لكل من ذي الفقار علي بوتو في باكستان (1979) وعدنان مندرس (1961) في تركيا. كما كان الصراع بين العلمانيين والإسلاميين من أهم سمات السياسة في كِلا البلدين، بحيث كان عسكر تركيا علمانيين خلافاً لعسكر باكستان، الذين لطالما تحالفوا مع الإسلاميين ضمن حساباتهم الخاصة بالجارة أفغانستان بعد الاحتلال السوفياتي، ثم الأميركي، لهذا البلد.
يفسّر كل ذلك الاهتمام التركي الدائم بالعلاقات المميزة بإسلام آباد بمعزل عمّن يحكمها، والذي كان في الغالب متعاطفاً مع الأسلاميين، في أطيافهم المتعددة. وجاء اتصال إردوغان العاجل مع شاهباز شريف (سبق له أن زار تركيا عام 2018، وعَدّ إردوغان زعيماً إسلامياً عظيماً) ليهنّئه بانتخابه رئيساً للحكومة، ليثبت موقف أنقرة المتناقض، فلقد كان إردوغان صديقاً مقرباً إلى عمران خان، وأقنعه بالابتعاد عن الرياض وأبو ظبي عندما كانتا عدوتين لأنقرة خلال الأعوام الأخيرة.
ويفسّر ذلك أيضاً مساعي إردوغان لأداء دور فعّال في أفغانستان (بالتنسيق مع "طالبان") بالتعاون مع الحليف التقليدي قطر في إبان الانسحاب الأميركي وبعده، وهو ما فشل فيه بسبب موقف رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي اختلف مع جنرالات الجيش في هذا الموضوع، وقام بتغيير رئيس المخابرات العسكرية، وهو منصب مهم جداً في باكستان. وجاء موقف الرياض التي استعجلت هي ايضا الاتصال بشاهباز شريف (أقام أعواماً طويلة هو وشقيقه نواز شريف بالسعودية) وتهنئته بعد أن أصبح رئيساً للوزراء، ليثبت استمرار المنافسة بين آل سعود والرئيس إردوغان، على الرغم من إغلاق الأخير ملف جمال خاشقجي ومساعيه للمصالحة مع الرياض. هذا بالطبع ما لم يكن هناك تنسيق تركي - سعودي مشترك فيما يتعلق بمستقبل باكستان ودورها في الحسابات الأميركية الخاصة بالصين وإيران والهند، وروسيا أيضاً، عبر جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية.
تناقضات الرئيس إردوغان في باكستان وجارتها أفغانستان ليست هي الوحيدة التي يعدّها البعض جزءاً من براغماتيته، على الرغم من فظاعتها، بحسب رأي قيادات المعارضة التركية، التي ترى في تصرفاته الأخيرة مساساً بكرامة الدولة والأمة التركيتين وسمعتهما وشرفهما. وترى أوساط أخرى في موقف إردوغان ودعمه الانقلاب الأميركي ضد عمران خان محاولةً منه لكسب ود الرئيس بايدن، الذي سبق له أن تحدث نهاية عام 2019 عن "ضرورة التخلص من نظام إردوغان الاستبدادي، من خلال دعم المعارضة في الانتخابات الديمقراطية"، وهو ما فعله بايدن، على نحو آخر، في باكستان.
وللتذكير، هدّد إردوغان الرئيس السيسي وتوعّده بسبب انقلابه على محمد مرسي في الـ3 من تموز/يوليو 2013، وفتح أبواب إسطنبول على مصاريعها لاخوان مصر الذين قدّم إليهم كل أنواع الدعم، سياسياً ومالياً وإعلامياً ونفسياً، وهو ما فعله مع إخوان تونس والمغرب والسودان وسائر الدول العربية، وفي مقدمتها من دون شك سوريا. كما هدّد إردوغان ووزراؤه وتوعّدوا كلاً من الإمارات والسعودية بسبب تضامنهما مع السيسي، وإعلانهما الإخوان المسلمين تنظيما إرهابياً. وكان ذلك كافياً لاستعداء إردوغان لقيادات مصر والسعودية والإمارات، فردّت هذه الدول بالمثل على تركيا عبر تحالفاتها مع اليونان وقبرص و"إسرائيل"، وخصوصاً فيما يتعلق بقضايا شرقي البحر الأبيض المتوسط، لتكون "تل أبيب" العدو الرابع في مسلسل العداءات التركية لدول المنطقة، من دون أن يلتفت الرئيس إردوغان إلى أن أنقرة كانت معها في الخندق نفسه ضد سوريا بهدف إسقاط الرئيس الأسد عبر مقولات طائفية، فشنّ إردوغان حملات عنيفة ضد "إسرائيل"، ووصفها بـ"أنها دولة الظلم والإرهاب والإجرام"، لكنه أغلق ملف سفينة مرمرة، التي قتل فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي عشرة من المواطنين الأتراك نهاية أيار/مايو 2010.
لم يخطر في بال أحد أن مقولات الرئيس إردوغان ومواقفه هذه ضد مصر والسعودية والإمارات و"إسرائيل" نَفَسُها قصير ما دامت متطلبات السياسة التركية الخارجية تفرض على أنقرة التراجع عن هذه المواقف عند الضرورة أو من دونها. وهذا ما فعله الرئيس إردوغان، الذي نسي أو تناسى كل ما قاله، ومعه وزراؤه وإعلامه الموالي عن حكّام الدول الأربع بعد انقلاب السيسي. وجاءت مصالحة إردوغان مع الإمارات فاتحةً عملية تساعده على كسب ود الأطراف الأخرى، وفي مقدمتها "إسرائيل"، التي تخلّى إردوغان من أجلها عن "حماس" والإسلاميين، وهو ما فعله مع القاهرة. وكانت المفاجأة الكبرى في تناقضات إردوغان هي استقباله العام الماضي مرتين لعبد الفتاح البرهان (صديق "إسرائيل") الذي أطاح صديقه وحليفه الإخواني عمر البشير، ناسياً أنه عادى عبد الفتاح السيسي لأنه قام بانقلابه وأطاح الإخواني محمد مرسي.
أمّا العلاقة بموسكو فهي الأغرب، في تفاصيلها المتناقضة، بحيث هددها إردوغان وتوعدها بعد إسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود مع سوريا في الـ 24 من تشرين الثاني/نوفمبر 2015. وجاء الرد سريعاً من موسكو التي منعت المواطنين الروس من زيارة تركيا، وكان يزورها سنوياً نحو سبعة ملايين روسي. وكان الرد الروسي هذا كافياً لتراجع إردوغان واعتذاره إلى الرئيس بوتين في حزيران/يونيو 2016، ليكون ذلك بداية التناقضات في العلاقة بموسكو التي تشهد كثيراً من المد والجزر بين الطرفين، وخصوصاً في سوريا والقوقاز وآسيا الوسطى، وأخيراً أوكرانيا.
على الرغم من حجم العلاقات التركية بموسكو في جميع المجالات، فإنَّ ذلك لم يمنع الرئيس إردوغان من تطوير علاقات مميزة أيضاً، في جميع المجالات، بالعدو اللدود لروسيا، أي أوكرانيا، في ظل حكم اليهودي زيلينسكي. وكانت الطائرات المسيّرة التركية من أهم عناصر هذه العلاقة المميزة بكييف، التي يريد لها إردوغان ألّا تُهزَم أمام الروس.
على الرغم من مساعي أنقرة للوساطة بين كييف وموسكو، بحيث نجحت في جمع وزيري خارجيتَي البلدين في مدينة أنطاليا، فإنّ الحديث استمرّ عن استلام أوكرانيا طائرات تركية مسيّرة تستخدمها ضد القوات الروسية. وجاء لقاء وزير الدفاع خلوصي آكار عبر الإنترنت (7 نيسان/أبرسل) ووزراء الدفاع في الدول المطلة على البحر الأسود، وهي جورجيا وبلغاريا ورومانيا وأوكرانيا، ليثير عدداً من التساؤلات بشأن ماهية الدور التركي في الأزمة الأوكرانية، وخصوصاً أن آكار لم يدعُ نظيره الروسي إلى هذا الاجتماع، ورجّح عليه وزير دفاع بولندا (ليست دولة مشاطئة على البحر الأسود)، العدو اللدود لروسيا وحليف زيلينسكي المهم، باعتبار أن المساعدات الأميركية والأطلسية تدخل أوكرانيا عبر الحدود مع بولندا.
وأخيراً، لا بدّ من التذكير باستمرار الموقف التركي تجاه سوريا والرئيس بشار الأسد، في الوقت الذي يتوقع البعض "انفتاحاً إردوغانياً" على دمشق. لقد عرض التلفزيون الحكومي "تي آر تي"، هذا الاسبوع، ومعه دُور السينما، الفيلمَ التركي Flash Disc، ويستمدّ فكرته من "اعترافات قيصر، المصوّر السابق في الشرطة العسكرية السورية، والذي قيل إنه قام بتهريب صور ووثائق عن التعذيب للمعتقلين في السجون بعد الثورة السورية".
كأن أنقرة، من خلال هذا الفيلم، تريد أن تقول إنها ما زالت عند موقفها في العداء لدمشق، ويبدو واضحاً أنها ستبقى خارج اهتمامات الرئيس إردوغان خلال المرحلة القريبة المقبلة. فإردوغان ينتظر الإشارات من عواصم المنطقة، والأهم من ذلك واشنطن ولندن وباريس، وهي معاً تراهن على نتائج مباحثات الملف النووي مع إيران، لنعود جميعاً إلى نقطة الصفر في حسابات المنطقة، حيث الرهان على إقناع الأسد بالتخلّي عن تحالفه الاستراتيجي مع إيران، التي من دونها لا ولن يستطيع أحد حلّ أيّ أزمة من أزمات المنطقة، ما دام حزب الله موجوداً في لبنان، وأنصار الله في اليمن!
* نقلا عن :الميادين نت
في السبت 16 إبريل-نيسان 2022 12:23:17 ص