|
على مرّ العصور، احتفظت مدينة القدس بمكانة لم تتزعزع، فكيف تحدث عنها ابن بطوطة وابن عربي؟
رغم أن بلاد الشام فقدت في العصر العباسي الأول (750 م) الصدارة بين الولايات الإسلامية، بعدما نظر إليها الخلفاء العباسيون بعين الريبة والحذر، بسبب ولاء أهل الشام الخالص للأمويين، فإن مكانة مدينة القدس الدينية والحضارية والرمزية لم تتزعزع.
والأكثر دلالة على ذلك ما جاء في المرويات التاريخية، وما ذكره مُبدعو أدب الرِّحلات عنها بوصفها ذاكرة ثقافية ومعرفية، بحيث باتت زيارتها بغاية الأهمية.
وفضلاً عن كونها مدينة زاخرة للأماكن المقدسة ومقصداً للحجاج، أصبحت شرطاً أوليّاً لتحصيل المعارف، لأن بيت المقدس في ذلك الوقت كان موئلاً بارزاً للعلماء والمفكرين والفلاسفة المسلمين والمسيحيين واليهود.
ولعل أكبر برهان على ذلك ما سجَّله محيي الدين بن عربي في كتابه “الإسرا إلى المقام الأسرى أو كتاب المعراج” عن رحلته إلى القدس. وقد جاء فيه ضمن باب “سفر القلوب”: “قال السالك: خرجت من بلاد الأندلس أريد بيت المقدس، وسرت على سواء الطريق أبحث عن أهل الوجود والتحقيق، رجاء أن أتبرَّز في صدر ذلك الفريق”، بمعنى أنها كانت رحلة بحث وكشف عن كبار المتصوفة الذين أفنوا حياتهم في العرفان، بأن يقف على معارفهم ومجاهداتهم ويتفهّم أساليبهم.
مستودع النور الإلهي
ويضيف الدارسون بأن كتاب ابن عربي ذاك ينتمي إلى أدب المعراج، على اعتبار أن معراج الرسول الكريم مضِيٌّ في الكشف واليقين، وبناءٌ مركزي في معارف المتصوفة. وعليه، فإن مدينة القدس فيما رواه ابن عربي جاءت بوصفها سرّاً غامضاً من الصعب إدراكه بالعقل، كما أنها حاجة لا تنتهي، يقول:
وعاينتُ من علمِ الغيوب عجائب.. تصانُ عن التذكار في رأي مَن وعى
ومن قائمٍ بالحال في بيت مقدسٍ.. فلا نفسه تظمأ ولا سرُّه ارتوى.
كما أن هذه المدينة تمثل مستودع النور الإلهي وكنز الحقيقة الذي يسعى إليه أهل العرفان، بحسب صاحب “ترجمان الأشواق”، إذ يقول:
للهِ درُّ عصابةٍ سارت بهم.. نُجُبُ الفناء بحضرة الرحمن
قطعوا زمانَهم بذكر حبيبهم.. وتخلّقوا بسرائر القرآن
ورثوا النبي الهاشمي المصطفى.. من أشرف الأعراب من عدنان
ركبوا بُراق الحب في حرم المنى.. وسروا لقدس النور والبرهان
هذا يعني أن القدس كما تجلت في كتاب “الإسرا”، فقد تجاوزت البعد المكاني، ليصبح حضورها احتفاءً بالرموز والمعارف التي تكتسي بها هذه المدينة.
أما رحلة ابن بطوطة إلى بيت المقدس في العام 762 هـ، والتي سجَّل تفاصيلها في كتابه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، فكانت رحلة استكشافية ذات أبعاد دينية وثقافية شاملة، صوَّر فيها أهم معالم المدينة الدينية، مع إبراز أهميتها وتجليات الرموز فيها، إذ يقول: “ثم سافرت إلى القدس، فزرت في طريقي إليها تربة يونس عليه السلام، وبه أثر جذْع النخلة، وعليه عمارة كثيرة، والنصارى يعظمونه أَشد التعظيم ويضيفون من نزل به، ثم وصلْنا إلى بيت المقدس شرّفه الله، ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل، ومصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً، ومعرجه إلى السماء، والبلدة كبيرة منيفة مبنية بالصخر المنحوت… فمنها بعدوة الوادي المعروف بوادي جهنم في شرقي البلد على تل مرتفع هنالك بنْية يقال إنها مصعد عيسى عليه السلام إلى السماء، وفي بطن الوادي المذكور كنيسة يعظمها النصارى ويقولون: إن قبر مريم عليها السلام بها، وهنالك موضع مهد عيسى عليه السلام يُتَبرك به”.
يقصر لسان رائيها عن تمثيلها
وإلى جانب سرديات ابن بطوطة عن الأماكن المقدسة المسيحية، فإنه كان بليغاً في وصف المسجد الأقصى وقبة الصخرة، إذ كتب عن الأول: “هو من المساجد العجيبة الرائقة فائقة الحسن، يقال: إنه ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه، وأن طوله من شرق إلى غرب سبعمائة واثنتان وخمسون ذراعاً بالذراع المالكية، وعرضه من القبلة إلى الجوف أربعمائة ذراع وخمس وثلاثون ذراعاً، وله أبواب كثيرة في جهاته الثلاث، وأما الجهة القبلية منه فلا أعلم بها إلا باباً واحداً، وهو الذي يَدخل منه الإمام، والمسجد كله فضاء غير مسقَّف إلا المسجد الأقصى، فهو مسقف في النهاية من إحكام العمل وإتقان الصنعة، مَمَّوه بالذهب والأصبغة الرائقة، وفي المسجد مواضع سواه مسقَّفة”.
وذكر عن قبة الصخرة بأنها “من أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلاً، قد توفّر حظّها من المحاسن، وأخذت من كلّ بديعةٍ بطرف، وهي قائمة على نشر في وسط المسجد، يصعد إليها في درج رخام، ولها أربعة أبواب، والجائر فيها مفروض بالرخام أيضاً، محكم الصنعة وكذلك داخلها، وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الذواقة ورائق الصنعة ما يعجز الواصف، وأكثر ذلك مغشّى بالذهب، فهي تتلألأ أنواراً أو تلمع لمعان البرق يحار بصر متأمّلها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها، وفي وسط القبة الصخرية الكريمة التي جاء ذكرها في الآثار، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم عرج منها إلى السماء، وهي صخرة صماء ارتفاعها قدر قامة، وتحتها مغارة مقدار بيت صغير، ارتفاعها نحو قامة أيضاً، ينزل إليها على درج وهنالك شكل محراب، وعلى الصخرة شبّاكان اثنان محكما العمل يغلقان عليها، أحدهما وهو الذي يلي الصخرة من حديد بديع الصنعة، والثاني من خشب، وفي القبة درقة كبيرة من حديد معلقة هنالك، والناس يزعمون أنّها درقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه”.
زاد المسافر
أما أقدم ما ورد عن القدس في أدب الرحلات، فكان ما دوّنه الرحّالة الفارسيّ ناصر خسرو في كتابه “زاد المسافر” (سفر نامة) الذي أُلف ونقل إلى العربية في القرن الرابع للهجرة، وضمَّنه وصفاً للمدينة وللحرم القدسي الشريف فيها، وحياة الناس فيه، مع معلومات دقيقة عنه تعتبر حتى أيامنا هذه من أدق المعلومات للباحثين في التاريخ والجغرافيا والمجتمع.
قال خسرو عن بيت المقدس: “هي مدينة مشيّدة على قمة الجبل، ليس بها ماء غير الأمطار، ورساتيقها ذات عيون، وأما المدينة فليس بها عين، فإنها على رأس صخري، وهي مدينة كبيرة كان بها عشرون ألف رجل، وبها أسواق جميلة وأبنية عالية، وكل أرضها مبلّطة بالحجارة، وقد سووا الجهات الجبلية والمرتفعات وجعلوها مسطّحة بحيث تغسل الأرض كلها وتنظّف حين تنزل الأمطار. وفي المدينة صنّاع كثيرون، لكل جماعة منهم سوق خاصة، والجامع شرقي المدينة وسوره هو سورها الشرقي، وبعد الجامع سهل مستو يسمى “الساهرة”، يقال إنه سيكون ساحة القيامة والحشر، ولهذا يحضر إليه خلق كثيرون من أطراف العالم ويقيمون به حتى يموتوا فإذا جاء وعد الله كانوا بأرض الميعاد. وعلى حافة هذا السهل قرافة عظيمة، ومقابر كثير من الصالحين يصلي بها الناس ويرفعون بالدعاء أيديهم فيقضي الله حاجاتهم، وبين الجامع وسهل الساهرة واد عظيم الانخفاض كأنه خندق وبه أبنية كثيرة على نسق أبنية الأقدمين”.
أما المسجد الأقصى، فقد أرَّخ له الرحالة الفارسي بالقول: “وقد بُني المسجد في هذا المكان لوجود الصخرة به، وهي الصخرة التي أمر الله عز وجل موسى عليه السلام أن يتخذها قبلة، فلما قضى هذا الأمر واتخذها موسى قبلة لم يعمّر كثيراً بل عجلت به المنيّة، حتى إذا كانت أيام سليمان عليه السلام وكانت الصخرة قبلة، بنى مسجداً حولها بحيث أصبحت في وسطه، وظلت الصخرة قبلة حتى عهد نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان المصلون يولون وجوههم شطرها إلى أن أمرهم الله تعالى أن يولوا وجوههم شطر الكعبة”.
“جمعت الدنيا والآخر”
ومن أشهر الرحالة الذين طافوا البلاد الإسلامية في القرن الرابع الهجري الموافق للعاشر الميلادي، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي أبكر البناء البشاري المعروف بالمقدسي، الذي وصف بيت المقدس ومناخها، والتي ولد وعاش فيها، قائلاً: “بيت المقدس ليس في مدائن الكور أكبر منها، وقصبات كثيرة أصغر منها، لا شديدة البرد، وليس بها حر، وقلّ ما يقع بها ثلج، سألني القاضي أبو القاسم ابن قاضي الحرمين عن الهواء بها، فقلت: سجسج لا حر ولا برد شديد، قال: هذه صفة الجنة”.
ويضيف في حديثه عن بنائها وأهلها وأسواقها وفاكهتها: “بنيانها حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعف من أهلها، لا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها، وفيها كل حاذق وطبيب، وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب… وقد جمع الله تعالى فيها فواكه الأغوار والسهل والجبال والأشياء المتضادة… وليس أمكن في بيت المقدس من الماء والأذان، هي بلدةٌ جَمَعَت الدُّنيا والآخرة، فمن كانَ من أبناءِ الدُّنيا وأرادَ الآخرة، وجَدَ سوقها، ومن كانَ من أبناء الآخرة فدعتهُ نفسه إلى نعمةِ الدُّنيا وجَدَهَا، وأمَّا طيب الهواءِ؛ فإنَّهُ لا سمَّ لبردِهَا، ولا أذىً لحَرِّهَا، وأمَّا الحُسْن فلا تَرَى أحسن من بنيانها، ولا أنظَفَ منها، ولا أنزهَ من مسجدها، وأمَّا كثرة الخيرات؛ فقد جَمَعَ اللهُ تعالى فيها فواكه الأغوار والسَّهْل والجَبَل والأشياء المُتضَادَّة كالأُترج واللوز والرُّطَب والجوز والتِّين والموز”.
ما كتبه هؤلاء الرحالة في فترة الحكم العباسي يثبت أن القدس بقيت محط أنظارهم، على اختلاف البلدان التي جاؤوا منها، وتعدد غايات رحلاتهم، لأنها المدينة العربية الوحيدة في تلك الفترة التي تنفتح على الأديان والثقافات والمرجعيات الفكرية المختلفة، ولا تستمد قداستها من رمزيتها الدينية فقط، بل من ذاك الانفتاح الذي جعلها حاضرة في وجدان كل من قصدها حاجَّاً أو راغباً في الاستزادة بالمعرفة أو العرفان على حد سواء.
* نقلا عن :الميادين نت – بديع صنيج
في الثلاثاء 03 مايو 2022 07:59:13 م