|
طاهر علوان الزريقي / لا ميديا -
من المحال أن يتغير ويتطور فكر الإنسان دون أن تتطور المجالات والوسائل المرتبطة بثقافته وفنونه ولغته والاستخدام الراقي لأساليب وأدوات العمل الفني الهادف بأنواعه المختلفة، وأيضاً الارتباط بالمعرفة الإنسانية المعاصرة المستجيبة لمقتضيات المرحلة الجديدة، عصر أدبر وعصر أقبل، ولا بد أن تكون الأفكار وتكوينها وثيقة الصلة بتكوين الكلمات ومضامينها، فكل مجال متطور يخاطب الجمهور يمكن رده إلى لغة أجيدت صياغتها، وإن تطوير المسلسلات الرمضانية مرهون بتطوير السيناريو وأسلوب الحوار وترابط الأحداث والتسلسل الدرامي القوي والجذاب والهادف والتعبير عن الأفكار بسلاسة وحداثة دون تكرار ممل أو بلبلة ساذجة تتخبط بها تلك المسلسلات الرمضانية سيئة السمعة بمردوداتها الفنية الدرامية والثقافية والفكرية الهابطة والمسفة.
ركاكة وهبوط فني
إن المجتمع الذي لا ينتج الفنون الراقية والهادفة والملتزمة بقضايا الناس مجتمع بدون روح، مجتمع «جعنان»، وأغلب المسلسلات الرمضانية هذا العام وكالعادة هي خارج الفعل الدرامي الهادف والقريبة من وجدان وعقول وقلوب المشاهدين، وإن ما أنتجته وتنتجه المؤسسات الدرامية المختلفة الرسمية والخاصة منذ بداياتها الأولى وحتى يومنا هذا مسلسلات ركيكة وهزيلة وهابطة فنياً وخارج الفعل الدرامي الهادف ما عدا مسلسل «الفجر» الرائع بكل حلقاته المكتملة من جميع النواحي الموضوعية والفنية والتقنية والذي يعالج مرحلة تاريخية هامة من حياتنا، واستطاع المخرج والسيناريست أن يفجرا الطاقات والقدرات الإبداعية الفنية الكامنة في أعماق طاقم العمل الدرامي والوصول بالأحداث الدرامية والأداء المتميز والتوترات الداخلية إلى الذروة الدرامية المطلوبة فنياً، مسلسل الفجر يعتبر بيضة الديك بالنسبة للدراما اليمنية و«وجبة درامية كاملة الدسم».
إن نجاح مسلسل «الفجر» يؤكد أن لدينا قدرات ومواهب إبداعية درامية متمكنة من أدواتها الفنية وتستطيع خلق دراما ذات نكهة طليعية، فقط علينا بالجهد المطلوب والاستمرارية في إنتاج المسلسلات الهادفة الدائمة لصقل القدرات والمواهب الإبداعية وتعميقها والتعامل بجدية مع تقنيات الفن الدرامي وتراثه الإنساني.
تهميش للدراما ولامبالاة
الدراما مرتبطة بعمق بالحياة الإنسانية وهي بمثابة الرغيف للإنسان، إلا أننا نتعامل معها بصورة هامشية وعدم مبالاة، والدليل على ذلك عدم وجود مسلسلات دائمة، العمل الدرامي وليد الحياة ومرتبط بالوقائع اليومية ومعبر عنهما مهما حاول الفنان الابتعاد عن الوقائع والتحليق في فضاءات خاصة استعراضية أو الرضوخ لضغوط من سلطات تفرض عليه أدواراً معينة حسب توجهاتها السياسية، فهل يواجه الفنان ويقاوم أم يستسلم وينتج ثقافة أزمات، ففي شهر رمضان الكريم من كل عام نستعرض باختصار واقع العمل الدرامي، ونحن هنا لا نكترث بهوية ومقام وجهة العمل وصاحبه بقدر ما نحاول التركيز والاهتمام بنوعية العمل الدرامي بحد ذاته هل استوفى شروطه الفنية والجمالية والتقنية الدرامية أم لا؟
وبالتالي نسعى إلى تحليل المضمون وتفكيك تفاصيل النص الدرامي -إذا كان هناك أصلاً نص- بحثاً عن الجيد وفصله عن السيئ أو تبياناً لما يمكن أن يحمل هذا العمل أو ذك من سموم فكرية أو إيجابيات اجتماعية، فمهمة الفنون الإنسانية بجميع أشكالها ونماذجها دأبت في البحث عن الشعور والفكر الإنساني والقضايا الساكنة والنابضة في حياة الإنسان والمعالجة العميقة لقضايا الإنسان وهمومه وهواجسه وآلامه ومعاناته وأحلامه وآماله والارتقاء بتلك الهموم والمشاكل إلى منصات جمالية معرفية، وتغليب الإنساني على السياسي وخلق أعمال درامية تندفع باتجاه الهم الإنساني، الهم الذي ولدنا فيه وعشنا خلاله وحياتنا معجونة بأوجاعه وآلامه.
لم تتفتح حياتنا على الكرنفالات والأفراح والطبل والمزمار والأعياد المتلاحقة، حياتنا لم تتأسس على الانتصارات والحياة الكريمة، كل حياتنا تفتحت على الإحساس المروع بوجود الهزيمة سواء على صعيد الهزيمة الروحية الإنسانية أو على الصعيد السياسي، هزائم عايشناها وعشناها ودفعنا ثمنها دماً، كل حياتنا معاناة وقهر ومحن دائمة ونضال مستميت من أجل الحصول على الرغيف الجاف وباستمرار، مخدوعين سياسياً من سلطات تحرث فينا، تحفر في أعماقنا، تحولنا إلى سلعة، وتدفعنا إلى حياة الجحيم، مخدوعين ومخدرين وبدون أجنحة، بدون حرية ومؤسسات تدافع عنا، بدون وجود مناخ ديمقراطي، وحياتنا تنتهي باستمرار إلى كوارث ومآسٍ ونكبات، حياة لا تطاق في بلد يسجن الإنسان كـ»بدل فاقد»، لأن أحد أقاربه ارتكب جريمة ولم تتمكن السلطات من القبض عليه.
وسيلة امتصاص ساذجة للعواطف وتشويه العقول
في بلد لا يجد الإنسان أي متنفس لهمه سواء السياسي أو الثقافي، مسلسلات هابطة تثير الغثيان وتضاعف من همومه، مسلسلات هزيلة لم تكن سوى وسيلة امتصاص ساذجة للعواطف والنقود وتشويه العقول، مسلسلات استهلاكية كما آلاف السلع التي تسوقها وسائل الإعلام، وبهذا المعنى يصبح الوجع ليس شيئاً خارجياً إنما يصبح شيئاً عضوياً يسكن في الأعماق ويدمر الروح والشعور الإنساني والإحساس ويشكل أساس حياتنا، خصوصاً إذا كنت تريد أن ترى الحياة من منظار جدي مقاوم ترفض الابتذال والتفاهة والظلم والطغيان والفساد والمحسوبية، أن ترى الحياة من منظار ومعيار حقيقي وليس من معيار ومنظار سياحي، هنا الفارق في أن ترى الحياة من منظار حقيقي وفعلي وإنساني، هنا يأخذ الوجع الشكل المقترح للعرض الدرامي ويتحول إلى شكل من أشكال التعبير الصادق على النفس عبر النص، ومن خلال أداء الممثل إلى حد تستطيع المسلسلات الدرامية أن تعبر عن حياتنا اليومية وآلامنا -وهي كثيرة- بوجع فعلي وحقيقي، وليس هناك دور حقيقي للدراما والمسلسلات الدرامية إن لم تكن قادرة على التعبير عن أوجاعنا الحقيقية وآلامنا ومعاناتنا ومشاكلنا اليومية وصعوبة الحصول على مصادر أرزاقنا بلغة جمالية راقية بعيداً عن التهريج الحاصل والإسفاف والافتعال وتشابه المسلسلات في الهبوط الفني، وكأن المخرج لجميع تلك المسلسلات التي عرضت في هذا الشهر الكريم هو مخرج واحد.
مسلسلات هزيلة متشابهة في الأحداث والأداء السمج
إن مهمة العمل الدرامي بدرجة أساسية هي التوعية والتثقيف وتنمية الحس والتذوق الجمالي لدى الجماهير ومعالجة القضايا الاجتماعية والخروج بحلول واقعية والترفع عن الإسفاف والابتذال والافتعالات والتهريج والضحك والسخرية على مصائر البشر وتسفيه همومهم وآلامهم وخواصهم وإنسانيتهم تحت شعار «الزبج» والفرفشة وإراحة الجمهور الذي يعاني طوال يومه ويتألم من قسوة الحياة وحياته تتحول إلى جحيم دائم فهو يبحث عن متنفس بمعنى من المعاني يبحث عن الضحكة عن الفرحة ولو كانت مؤقتة، فارغة، تافهة وجوفاء وسمجة وبعيدة عن المضامين الإنسانية والاجتماعية والسياسية الهادفة.
على كل حال ما يعرض في الشهر الكريم من مسلسلات ليس لها علاقة بالكوميدي ولا بالتراجيدي، الكوميديا الراقية هي المفارقات في الحياة وأحداثها الحقيقية المضحكة ومن خلال أحداث واقعية وتلاحق تلك الأحداث بين مد وجزر، بين التعارض والتناقض، بين الانكفاء على الذات واللامبالاة، والانتماء والرفض، بعيداً عن مواقع الانزلاق المدمرة بكاريكاتورية مضحكة مفتعلة والسخرية من العيوب الخلقية، كوميديا تعالج بصدق الهموم الفردية والجماعية الطاحنة وتلبي احتياجات المشاهد للخروج من دهاليز الكآبة وواقعه القاسي بأحداثه المؤلمة وبمضامين واقعية اجتماعية أو سياسية، الدراما الرمضانية مازالت تسبح في الدهاليز المظلمة وتحت سيطرة «مافيا» متكلسة قليلة الخبرة أو بالأصح عديمة الخبرة والقدرة الإبداعية المتمكنة والموهبة المتأصلة والقادرة على الابتكار وخلق الجديد المدهش والطليعي، دراما مازالت قاصرة وتحت الوصاية المصرية بكل ترهلها وتوابلها التجارية وعصاباتها ومخدراتها وسماجاتها، مسلسلات هزيلة متشابهة في الأحداث والأداء السمج والنصوص الهزيلة والحوارات المتكررة المملة والأداء المفتعل وعدم الاهتمام بالشكل والمضمون وكشف مكنونات الشخصيات وطرح همومها وطموحاتها بصدق وأمانة، مسلسلات غير واقعية ولا علاقة لها بواقعنا وأوجاعنا وقضايانا حتى تلك «الوجبة الدرامية الرمضانية كاملة الدسم» دراما تشبه بعضها البعض، دراما كسولة مملة تتملق الجمهور وتدغدغ غرائزه، دراما هابطة هجرها الجمهور وهي تمضي إلى مثواها الأخير.
توليفات مسروقة من المسلسلات المصرية الهابطة والمستهلكة
كل عام في شهر رمضان الكريم نحتفل الاحتفال الجنائزي بتلك المسلسلات التي تكرر نفسها بخيوطها الدرامية المترهلة وبنفس الممثلين والممثلات والحوارات التي تكررت على مسامعنا آلاف المرات نتكعف توليفاتها التجارية المسروقة من تراث المسلسلات المصرية الهابطة والمستهلكة والتي تعتمد على القفزات المفاجئة في الأحداث والشخصيات الباهتة، فاقدة الحياة ولا تضفي جدارة حقيقية على أدائها في كل مشهد على حدة، حركات ومواقف وانقلابات ميلودرامية وذروة فنية مصطنعة بمبررات درامية متعسفة تشمل الأحداث، مسلسلات رمضانية تجمع في سلة واحدة كل ضعف المسلسلات المصرية وتوابلها التجارية وعصابات المخدرات الإجرامية والمطاردات البوليسية والتهريب والقتل بمبرر وبدون مبرر دون حسيب أو رقيب أو عقاب وكأننا في غابة لا قانون ولا محاسبة، مسلسلات رمضانية متشابهة تشابها عجيبا في كل القنوات اليمنية وبدون استثناء بأضوائها الخافتة وظلالها القاتمة وزوايا التصوير الغريبة وتلاحق اللقطات في مونتاج سريع، هرج مبتذل، وشخصيات باهتة مترهلة بعلاقاتها الغرامية ومواقفها الدرامية وسردها الركيك ومنطق الأحداث الميلودرامية وكوارثها المصطنعة المتتالية ومناظر الممثلين المتعجرفين والافتعال والعرض الدرامي الرخيص ونسيج الأحداث غير المتماسكة درامياً حيث لا يستطيع المخرج إدراك أنه قد تخطى الذروة الدرامية المطلوبة للأحداث بشخصياته شديدة النمطية فاقدة الحياة والأبعاد والملامح لا تضفي حرارة حقيقية على أدائها في كل مشهد على حدة ولا تؤديه بكل جوارحها ومشاعرها، مسلسلات رمضانية اختلقت عالما خياليا ومجتمعا وهميا متفسخا لا صلة له بواقعنا لكي تسقط عليه الخطايا والمظالم والعنف والإجرام، مأساتنا الحقيقية هي عدم الاعتراف بأزمة العمل الدرامي الذي أوصلنا إلى هذا المستوى الهزيل بنصوص ركيكة هابطة وشخصيات هامشية بدون هوية أو مرجعية روحية وإنسانية، دراما خطابية لم تستطع كسر الخطاب الأيديولوجي والانتقال والاهتمام بالهم الإنساني وتهشيم النزعة التسلطية بالفن والسياسة، فحياتنا تسير باتجاه مسدود، الحياة نفسها تنهار متجهة نحو نهايات مأساوية، فالمفروض في هذه المرحلة بالذات، مرحلة العدوان والحصار والجوع والقصف والصمود البطولي لشعبنا، أن تعكس الدراما تلك الأحداث والمرحلة التاريخية والنكبات والكوارث المأساوية بقوالب فنية جمالية، وأن توثقها بصورة درامية راقية، أن تخلدها بمسلسلات مترابطة الأحداث قوية الشكل والمضمون تصنع نسيجاً متماسكاً من الأحداث الدرامية، وأن تستبصر أغوار ما في باطن الأحداث والذاكرة الفردية والجماعية والتاريخ المثقل بالمآسي والنكبات والكوارث والظلم الاجتماعي والفساد المستشري حتى النخاع بعلم ومعرفة الجميع، وأن تعالج أوجاع الناس ومعيشتهم البائسة والمؤلمة.
لا بد من الدراما الواقعية أن تتطابق في كثير من الأحيان مع أوجاع الناس وواقعهم الاجتماعي ومعالجتها بصورة فنية جمالية راقية متمكنة من أدواتها وقدراتها الفنية بعيداً عن المباشرة وتسجيل الأحداث والوقائع بحذافيرها كما هي، ولتسهم الدراما في تغذية الآمال والطموحات المكتومة في الصدور وتخترق الحجب واستشراقات المجهول بأعين واقعية لفكرة الإقلاع الثوري الحقيقي الخالي من الفساد والمحسوبية والممارسات القاتلة لأهداف الثورة ومضامينها الاجتماعية والتي لم ولن يكتمل بناؤها الكمي والكيفي إلا بأعمدتها الثقافية والفكرية والفنية وتكاتف الجميع حول الهدف الدرامي بضرورة الانتماء إلى الفن الملتزم بقضايا الإنسان وهمومه والواقع وحركته المتفاعلة مع الأحداث والبعد عن التسجيل المباشر السكوني الممل والجامد في قشرة الواقع الخارجي.
«مافيا» الدراما والتحليق في الابتذال
الدراما وليدة الحياة والواقع ومعبرة عنهما مهما حاول مرتزقة الدراما (المافيا) المسيطرة عليها الابتعاد والتحليق في الهوامش والابتذال طاعة لأوامر وتوجهات لجهات جاهلة لا علاقة لها بالفن والثقافة.
الدراما عمل واع، والفنان يعمل على امتداد الحالة الإبداعية الدرامية مستخدماً أدوات الوعي وما فوقه وما تحته، يعمل بالمخزونات والمحاصيل الثقافية في دائرة كبيرة من النشاط المعرفي والإنساني السامي، لذلك وباختصار فإن العمل الدرامي فعل وليس رد فعل إطلاقا، أي حالة تغيير ومقاومة لسلبيات الواقع والحياة والالتزام بمبادئ القيم الإنسانية وليس قطعاً انعكاساً لسلطة معينة أو لأوامر وضوابط معينة من جهة ما، مهما كانت مكانتها وموقعها، وقد يكون من شطط الأحلام أن نتمنى أن يكون لدينا «وجبات درامية رمضانية كاملة الدسم»، وبطريقة وأسلوب الكاوبوي الأمريكي مفتول العضلات والذي يقتل دون مبالاة المئات دون رقيب أو حسيب أو عقاب، وربما أيضاً أن يكون تعسفاً أن نطلب من صناع تلك «الوجبات الدرامية الرمضانية كاملة الدسم» أن يتخلوا عن طموحاتهم ونزعتهم الإنسانية المتفائلة ويصوروا الشعب اليمني الذي يتضور جوعاً، والمصاب بفقر الدم والكساح الاقتصادي، وأن يكون بتلك البطولات الأمريكية الخارقة ونحن نعاني من ويلات العدوان والحصار الخانق وانعدام الراتب.
المؤسف حقاً أن تعرض تلك المسلسلات كاملة الدسم من قناة محسوبة على المستضعفين ومن أموالهم، وجوعهم، وكدهم، وعرقهم، ومعاناتهم، وآلامهم، ورزق أطفالهم، وهدر المال العام، قناة تعتبر الرمز الوطني الأول للنضال ضد الفساد والنور الذي يضيء حياتنا بالمواقف والأفكار الجادة والملتزمة والهادفة، والشمعة التي تنير لنا الطريق لمقاومة الفساد الذي سمم حياتنا وترشدنا لمعالم الطريق الثوري ومقاومة قوى الظلم وعناصر الارتزاق بأشكالها المختلفة، وجماعة التشويه الفكري والعاطفي والوطني.
* نقلا عن : لا ميديا
في الإثنين 16 مايو 2022 12:28:02 ص