|
الثورة /عباس السيد
يحن الكثير من الناس إلى ” عيد زمان ” ويرددون : العيد هذه الأيام بلا طعم .. أعياد زمان كانت مختلفة ، الفرحة فيها غامرة ، والسرور يلوح من أوجه الناس كانعكاس الأشعة في المرايا ، يأتي العيد بالعزومات والولائم ولم الشمل بين الأهل والأقارب والأصحاب من كل حدب وصوب .
كان ذلك قبل ” السوشيال ميديا ” قبل الفيسبوك ، والواتساب ، وسناب شات وانستجرام وتليجرام وتويتر ، وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي.
صحيح أن هذه الوسائل جعلت العالم الواسع قرية صغيرة ، لكنها في نفس الوقت أوجدت جدران العزلة داخل المنزل الواحد وبين أفراد الأسرة الواحدة ، وأحالت المنزل إلى عالم مترامى الأطراف ، كل فرد منهمك في شاشة هاتفه أو جهازه ، كل له عالمه ، وكل في فلك يسبحون .
وأحيانا قد يؤدي الاندماج مع المجتمع الافتراضيّ البعيد، إلى الانعزال الشعوري عن المجتمع القريب ، فنجد الشخص وفي حضرة ضيوفه منشغلاً مع أصدقائه على ” الفيس بوك أو الواتسآب ” على حساب واجب الضيافة.
وفي حالات أخرى ينشغل بعض الناس عن الآخرين في حضورهم، خاصة مع كبار السن من أجداد وغيرهم ، وبالتالي فقد أصبح بعض كبار السن يشعرون بالعزلة عن أقاربهم لانشغالهم بالأجهزة أثناء زيارتهم لهم بدلًا من الحديث معهم والاهتمام بهم.
لقد قلصت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة التواصل الحقيقي المباشر بين الأهل والأقارب والأصدقاء ، لأن الكثيرين باتوا يعتبرونها بديلا عن الزيارة المباشرة أو المعايدة بالحضور واللقاء وجها لوجه .. هؤلاء لا يدركون أن التواصل الحقيقي الطبيعي الذي كان الناس يعيشونه قبل زمن ” السوشيال ميديا ” هو ما أصل الكثير من القيم الإنسانية ، وخلق أجواء من المحبة والمودة والتآلف بين الناس.
يمكن القول إن “وسائل التواصل ألغت التواصل” فالتواصل والصلة التي كان الناس يهتمون بها ويحرصون عليها تراجعت كثيراً بعد ظهور هذه الوسائل، وربما كان الحضور المتواصل في وسائل التواصل سببا في تقليل الدافع النفسي للصلة المباشرة، وهذا سينعكس بالطبع على العلاقات بين الأقارب وصلة الأرحام .
معايدات مجمَّدة
لعيد الفطر أو الأضحى حرمته وقداسته التي تحتم علينا أن نضع شغف الحياة ومطاردة المستقبل جانباً لنحتفي بطقوس طالما افتقدناها بمرور الأيام، وأحد أعمدة العيد الفضيل هو صلة الرحم، والتي تعني الإحسان إلى الأقارب في القول والفعل، بزيارتهم وتفقد أحوالهم والسؤال عنهم، ومساعدة المحتاج منهم ، والسعي في مصالحهم.
وربما كان من الحكمة استغلال فرصة تواجدنا ضمن أجواء العيد مع العائلة والأقارب للتواصل المباشر وجها لوجه دون وسيط تكنولوجي يساهم في بناء الحواجز بيننا وبين من نحب.
السوشيال ميديا قتلت مشاعرنا وحوَّلت واجب المعايدة إلى رسالة أو “ايموشن” . الكثير من الناس يختصرون تهنئة العيد برسالة ” محولة ” ترسل لجميع الأصدقاء والأقارب بضغطة زر ، لا يختلف محتوى الرسالة من شخص إلى آخر ، رسالة معاودة بلا طعم ولا تعنى أي شيء ، وسيبقى واجب المعايدة معلقا في العالم الافتراضي حتى يؤدى بشكل حقيقي وطبيعي، فلا تغلقوا عليكم الأبواب وتحملون هواتفكم وترسلون وتستقبلون رسائل التهنئة بالعيد وأنتم بنفس البلد وبينكم أمتار قليلة.
دراسات علمية
عام 2017 نشرت المجلة الأمريكية للطب الوقائي دراسة حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الوحدة والعزل الاجتماعي ، وتبين من خلال استطلاع آراء سبعة آلاف شخص ممن تتراوح أعمارهم بين 19 و32 عاما أن الأشخاص الذين يقضون وقتا أكثر على مواقع التواصل الاجتماعي يصبحون أكثر عرضة للشكوى من العزلة الاجتماعية، والتي يمكن أن تتضمن نقصا في الشعور بالانتماء الاجتماعي، وتراجعا في التواصل مع الآخرين، وفي الانخراط في علاقات اجتماعية أخرى.
ويمكن لقضاء مزيد من الوقت على مواقع التواصل الاجتماعي، كما يقول الباحثون، أن يؤدي إلى أن يصبح التواصل عبر الأجهزة الإلكترونية بديلا للتواصل وجها لوجه مع الآخرين، ويمكن أيضا أن يجعل الناس يشعرون بأنهم أكثر عزلة.
وفي دراسة ميدانية لجامعة مصرية حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على منظومة القيم في إحدى القرى المصرية تبين للباحثين أن وسائل التواصل الاجتماعي عملت على ظهور قيم جديدة ومن أهمها الانعزالية ، حيث قللت من مشاركة الأفراد بعضهم مع بعض بشكل مباشر، وكان لذلك أكبر الأثر على الأسرة، حيث قللت من الحوار والتقارب بين إفراد الأسرة ، وتأثرت العلاقة الزوجية وفقد الحوار بين الزوج والزوجة، ووجدت الدراسة تأثير هذه الوسائل على قيمة الارتباط بالأرض واحترام كبار السن، والتي تعد من أهم قيم المجتمع القروي .
قبل زمن ” السوشيال ميديا ” كانت الأسرة تجتمع، أو تخرج للزيارات أو التنزه في الحدائق ، أما الآن فقد أصبح لكل فرد من أفراد الأسرة ” شلته ” الخاصة التي يتشارك في الخروج معها فى منأى عن الأسرة وما يراه من قيود تفرضها عليه.
التواصل في العيد ينشط هرمون السعادة
السعادة ليس لها علاقة بالمال أو الصحة أو المنصب والشهرة، ولكن أعلى قيمة للسعادة تكمن في العلاقات الإنسانية الناجحة والتواصل الاجتماعي ” المباشر ” مع الآخرين .
تؤكد العديد من الدراسات أن التواصل مع الأقارب والأصدقاء في العيد ينشط هرمون السعادة، مؤكدة أن الفرصة أمامنا في عيد الأضحى المبارك هذا العام والذي يأتي لنا بفرحته وبهجته، ولتكن بعد ذلك أيامنا كلها أعيادا بالتواصل والاندماج مع الآخرين .
موضوع السعادة سؤال حير البشرية ، ومنذ حوالي 2500 سنة وعلماء النفس والفلاسفة يسعون لمعرفة معنى السعادة بدءا من كونفوشيوس وبوذا إلى أرسطو وأفلاطون، وغيرهم من العلماء إلى يومنا هذا.
” كيف للإنسان أن يكون سعيدا؟”.. سؤال استغرق أجيالاً للإجابة عليه وجعل العلماء يبحثون إلى أن اكتشفوا جين السعادة، وقد كانت الصين سباقة في هذا المجال، حيث أعدت 130 جهازا للفحص النووي من أجل تعديل جين السعادة للأجيال القادمة، ويعتقد العلماء أن الجينات تتحكم بقابلية السعادة بنسبة 50 %، والظروف التي يعيشها الشخص بنسبة 10 %، والقرارات التي يتخذها بنسبة 40 %.
وفي دراسة حديثة وفريدة من نوعها أجريت في جامعة هارفارد على 724 شخصاً تمت دراسة حياتهم بدقة وبكل التفاصيل على مدار 75 عاما لمعرفة سر السعادة في الحياة البشرية، وتوصلوا بعد أن مات معظم الخاضعين للدراسة، وبعد أن مرت 4 أجيال من العلماء على هذه الدراسة إلى أن سر السعادة ليس له علاقة بالمال أو الصحة أو المنصب والشهرة، ولكن أعلى قيمة للسعادة تكمن في العلاقات الإنسانية الناجحة والتواصل الاجتماعي مع الآخرين، وأن الإنسان قد يصل إلى أعلى مستويات الاكتئاب بسبب الوحدة، وعدم القدرة على التواصل، والذي قد يؤدي الى الانتحار في بعض الحالات.
الدراسة نفسها أجرت مقارنة بين حالتين ، الحالة الأولى دخلها السنوي 45 ألف دولار، والثانية 75مليون دولار ، ولم يجدوا فرقاً في مستوى السعادة في الحالتين، بينما وجدوا أن في التواصل الاجتماعي مع من نحب، والعطاء والرحمة تفرز في الدماغ هرمون السعادة المكون من عدة مواد كيميائية هي الأوكسيتوسين، أو هرمون الحب، وأندروفين وهو هرمون مسكن للآلام ومكافح للقلق والتوتر، وأخيراً مادة السيروتينين التي تلعب دوراً مهماً جدا في تنظيم مزاج الإنسان”.
وبحسب كلام العلماء ، فإن الوصول إلى السعادة الدائمة مستحيل، لأن الإنسان في رغبة دائمة للحصول على المزيد من كل شيء ورغباته لا تنتهي .
في السبت 09 يوليو-تموز 2022 07:46:10 م