تعطل الإرادة في حركة التاريخ
عبدالرحمن مراد
عبدالرحمن مراد

منذ أمد قصير تبدو المشاهد السياسية ضبابية في واقعنا اليمني , كأن هناك واقعا جديدا يتهيأ كي يعلن عن نفسه , هناك حركة غير عادية للمجتمع الدولي يقوم بها المبعوث الأممي وغيره من المهتمين بالشأن اليمني , وهناك إشارات ورموز تأتينا من هنا وهناك , وهناك صمت غير مبرر من قبل الكثير من اللاعبين على حبل السياسة , وهناك نياح وعويل من قبل إخوان اليمن , وهناك ركود في حركة الواقع اليمني , مع حالة تصدع في جدار الوطن , ثمة اهتزازات هناك , وتذمر هنا , وثمة خطاب تصاعدي محوره تعز في كل الاتجاهات , حديث متنام عن طارق عفاش وحالته التفاعلية مع تعز , وحديث متصاعد عن حصار تعز , وعن فتح الطرق بطرق وأساليب غير واقعية ومضللة , في مقابل كل ذلك الكثير من المنتمين إلى تيار الإخوان أو من المحسوبين على حركة الاضطرابات في عام 2011م من الإخوان ومن غيرهم يتبنون خطابا ثقافيا هدفه تفكيك البنية الثقافية والتصورات الذهنية في التاريخ والمعتقدات , ومثل ذلك مسار لا نظنه إلا حالة استراتيجية تبحث عن أرضية لرسم لوحة اليمن القادم .
فكرة الهدنة التي بدأت منذ أربعة أشهر ويجري الحوار من أجل تمديدها إلى لستة أشهر يقابلها اشتغال مكثف في البعد الثقافي والاجتماعي , يقوم ذلك الاشتغال على بعدين أساسيين هما : البعد الثقافي , والبعد الاقتصادي , ويبدو لي أن الاشتغال على البعد الثقافي هدفه التهيئة لحالة التيه , بحيث يصل المجتمع اليمني إلى نموذج العراق ,الاستغراق في التعصب إلى درجة العمه وفقدان التوازن النفسي والاجتماعي للأفراد والمجتمع , وبحيث يفقد المجتمع قيمه ويتمرد على العادات والتقاليد , وبوادر ذلك وظواهره موجودة في الواقع , وقد بدأت تعلن عن نفسها في شبكة التواصل الاجتماعي , أما البعد الاقتصادي فيتواشج بشكل أو بآخر مع البعد الثقافي ويعزز حضوره في الوجدان العام , فقد بلغ الضيق بالناس إلى درجة الانتحار , وممارسة الرذائل من أجل البقاء على قيد الحياة , بل بلغ الضيق في العيش الكريم إلى درجة الكفر بالمقدسات خاصة عند فئة الناشئة والشباب .
في كل الأحوال وفي مجملها لا تترك الحروب في المستوى الحضاري المعاصر إلا ندوبا نفسية , وعداوات وأحقاداً , ولا تجني الشعوب منها سوى الخسران المبين في مقدراتها ,وفي وجودها ,وفي مستوى تفاعلها مع الآخر المختلف , فوظيفة القوة والحرب التي كان عليها الحال في حقب التاريخ المختلفة تبدلت اليوم تبدلا كبيرا , ولم تعد الحرب العسكرية هي الوسيلة الوحيدة في تحقيق الفاعلية والأثر في الحياة بل أصبحت جزءا مهما من عناصر أخرى تتضافر معها وتتآزر لتحقيق تلك الفاعلية ,فالمنطق الجدلي , والبعد الثقافي الرصين , والحوار , والتعايش , والحرية , وشعبوية السلطة , والعزة والكرامة والسيادة الوطنية, وتفجير الطاقات الفردية في الابتكار والإبداع , وتغليب المصالح المرسلة لعموم الناس , والعدل , والانتصار لسبل العيش الكريم للمواطن , وغير ذلك من الكليات التي تحددها الحاجات البيولوجية للإنسان كل ذلك من القضايا الكبرى للشعوب إذا أرادت الانتصار وتحقيق الحضور والفاعلية في المستوى الحضاري المعاصر, فالدين هو عنصر من عناصر التكامل للفرد والمجتمع , يقف معه عنصران مهمان هما العقل والفن , وحين يكون موقفنا من العقل ومن الفن موقفا سلبيا فنحن نبتعد كل البعد عن فكرة التكامل وعن فكرة التطور والتفاعل مع المستوى الحضاري المعاصر ,ونعيش زمنا لا يتسق معنا , وبذلك يغترب الإنسان ,غربة زمانية ,وغربة مكانية .
نحن بالضرورة جزء من الماضي، ومن التاريخ ,ولكن ذلك لا يعني مطلقا عدم قدرتنا على صناعة واقع يمتد من ماضيه ويتفاعل مع حاضره كي يبدع مستقبله , فالقضية ليست أكثر من حالة كيمائية تفاعلية تنتج معادلة جديدة قادرة على الحياة في عالم يمتاز بالتطور والحركة السريعة .
قد نتخذ من الماضي ورموزه قاعدة ننطلق منها، فالتحول والحركة ضد الثبات، وميزة الأشياء كلها في حركتها وفي تحولها، ذلك أن الثبات موت وتعفن، ولم تصب الأمة الإسلامية بداء أقدر على موتها من ثباتها ولا أعني هنا الثبات على المبادئ بل أعني بالثبات حركة التعطيل للمسار التاريخي من الإرادة على الابتكار والتفاعل والصناعة: يقول البردوني في مقال له بعنوان ” ثورة الحسين ومكانتها في تاريخ الحركات “.
” خرج الحسين في زمن التعطل من التاريخ , ولو تحرك الحسين في زمن تحرك التاريخ لما سقط شهيدا على يد أولئك الرجال من أتباع يزيد , ولكنها فترة العقم توجه الحدث إلى خلفه ,وتعكس الوجه إلى ذيله , فقد جاء الحسين بعد أن مات بعض الصحابة ,وشاخ بعضهم , وارتاب بعضهم في ما يرى , وتفرق عدد منهم في الأمصار , لأن لهذه الفترة خلفية من عشرين عاما أدارها دهاء معاوية, فجاء الحسين ويزيد إلى زمن منصوب السلَّم لقدمي يزيد ,مرفوع النعش لجثمان الحسين , فهذه الفترة تشبه أيامنا هذه الملفوفة الوجوه إلى الخلف ,والضائعة بين المهبات العاصفة , إذ تلاحقت الكوارث من مطلع الستينات بعد بشائر الخمسينات , وكأن تلك البشائر أحلام ليلة صيف , كانت أول فادحة انقصال الجمهورية العربية المتحدة بعد عمر قصير من الوحدة المنشودة , وكانت هذه الفادحة بداية لأخطار أفدح إذ ترتبت عليها هزيمة 67م ,ورحيل ناصر عام 70م ,ومؤامرة 73م ,ثم حرب لبنان ,ثم الغزو الإسرائيلي كخاتمة لهذا الفصل المأساوي , وربما كان بداية لفصول أخرى قد تعاكس أصولها ,وقد تشبه مقدماتها ..
ألا تتشابه فترات التعطل من التاريخ أو العجز عن الإرادة؟
وهذ التعطل في جانب يؤدي إلى امتلاء الجانب المعاكس، فقد أدى تعطل الإرادة الخيرة بمقتل الحسين إلى انتصار الانتهازية السفيانية الأموية، كما سبب تعطل هذه الفترة من الإرادة العربية إلى غلبة الصهيونية والإمبريالية حتى أصبحت كل المنطقة كولاية أمريكية أو كمستوطنة صهيونية ” .
فحركة التعطيل ظاهرة عربية قديمة، فالثبات في مستوى التفكير والموقف منع العرب من التفاعل مع الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، وقد تحدث القرآن في الكثير من آياته عن ذلك، في سياق رفض العرب دعوته بحجَّة السير على ما وجدوا آباءهم عليه، ولذلك يقال العقل العربي يتقبل القضايا ككليات دون تجزئة وتحليل.


في الجمعة 29 يوليو-تموز 2022 07:47:07 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=5693