مسيرة "الأربعون ربيعا" ومسار بناء الردع الاستراتيجي
شارل أبي نادر
شارل أبي نادر


من يتابع اليوم الحراك أو الاشتباك المباشر وغير المباشر بين حزب الله وبين العدو الاسرائيلي، وذلك على خلفية الكثير من ملفات الاشتباك، وخاصة في ملف الترسيم البحري وانتزاع حقوق لبنان في المنطقة المتنازع عليها وفي المناطق الأخرى، يجد أن مستوى هذا الاشتباك أعلى بدرجات من مستوى اشتباك بين كيان او دولة اخطبوطية باذرع إقليمية ودولية من جهة، وبين حزب أو مقاومة محلية، تملك الحد الأدنى من القدرات المناسبة لمواجهة هذا العدو - الاخطبوط، من جهة أخرى.

هذا الاشتباك شبه المتوازن تقريبا بين الطرفين، وهذا المستوى من الضغط الذي يمارسه حزب الله والذي استطاع من خلاله ان يفرض موقفه القوي في ملف الترسيم البحري لصالح لبنان، والذي هو عمليا موقف غير متناسب مع الفارق في القدرات والإمكانات التي تملكها "اسرائيل"، يستدعي اولا: عرض المعطيات التي تترجم هذا التوازن او الموقف القوي لحزب الله، ويستدعي ثانيا: البحث بجدية وبموضوعية عن الأسباب التي ساهمت بنجاح حزب الله في انتزاع هذه القدرة بمواجهة العدو القوي.

لناحية المعطيات او الوقائع التي تترجم موقف المقاومة القوي، يمكن تحديد أهمها بالتالي:

اذا حصرنا الان هذه المعطيات فقط ، بما يتعلق بملف الترسيم البحري مع الكيان الصهيوني، والتي تشكل عمليا امتدادا اكيدا لمعطيات متراكمة عن قدرة الردع ومعادلات القوة، والتي فرضها حزب الله خلال مسار طويل من المواجهة، يمكن القول ان المقاومة استطاعت في هذا الملف (الترسيم)، وعبر مناورة متكاملة ومدروسة ومخططة بدقة وبعناية، اعلامية وسياسية واستعلامية وامنية وعسكرية ان تعرقل مخططا إسرائيليا كاملا لاستخراج الغاز من بحر فلسطين المحتلة.
 
وهذه العرقلة التي اصابت مخطط الكيان الصهيوني لاستخراح الغاز، لم تصب فقط المناطق البحرية المتنازع عليها مع لبنان، بل أيضا اصابت كل الحقول البحرية لفلسطين المحتلة، والتي تتجاوز الخمسة حقول، وتمتد جنوبا حتى حدود فلسطين البحرية مع حدود مصر البحرية، وتمتد ايضا نحو الغرب حتى حدود قبرص البحرية.

عمليا، وحيث كان الكيان الصهيوني قد وصل إلى نقطة متقدمة من الجهوزية شبه الكاملة للبدء في الاستخراج من كامل البلوكات البحرية، ضمنا من حقل كاريش، بعد ان كان قد سخّر لذلك جهودا ضخمة، وعلى فترة طويلة من العمل المتواصل، مالية وتقنية وعلمية وأمنية، وحتى عسكرية لحماية مناطق العمل، هو اليوم، وبعد أن حاول تجاوز الحقوق اللبنانية، اُجبر على تعليق كامل هذا المسار بضغط وبتهديد من حزب الله، وبطريقة كانت مفاجئة وصادمة له، حيث لم يكن ينتظر أن يجرؤ حزب الله على اتخاذ هذا الموقف، والذي يتجاوز موقف وقدرة حزب، ليصل إلى موقف لا يمكن لاي دولة ان تفرضه، الا الدول القوية صاحبة القدرات والامكانات الضخمة.

ايضا، حساسية وأهمية ما فرضه حزب الله من معادلات بحرية، تجاوزت عرقلة مخطط إسرائيل في استخراج الغاز، ليصل إلى عرقلة مخطط واشنطن وحلفائها الأوروبيين، لتأمين سريع وقبل الشتاء القادم لغاز بديل عن الغاز الروسي، وحيث يرتبط الملفان او المخططان معًا بشكل كبير وشبه كامل، اولا لما يمكن ان تؤمنه المناطق البحرية في لبنان وفي فلسطين من كمية غير بسيطة من هذا الغاز البديل، وثانيا لضرورة واهمية وجود هدوء وامن على كامل المناطق البحرية في شرق المتوسط، لكي تعمل الشركات المعنية، بكل سهولة وراحة وأمان، الأمر الذي لن يكون متوفرا حتما في حال حصل الاشتباك البحري، او غير البحري طبعا، بين حزب الله وبين الكيان الصهيوني .

فكيف لحزب الله أن يفرض بموقعه وبموقفه هذه العرقلة المزدوجة لملفين، اقليمي ودولي، ومن أهم الملفات التي يعوّل الغرب اليوم عليها بشكل كبير، كعنصر اساسي من عناصر المواجهة الدولية ضد روسيا؟

لا بد هنا من العودة إلى الاسباب التي استطاع حزب الله من خلالها خلق وفرض هذا الموقف القوي، وبناء وامتلاك هذه الامكانيات غير المتناسبة اساسا مع حجمه ومع موقعه.

في الواقع، لا يمكن لحزب الله أو لأي جهة أو حزب أو طرف آخر، أن يصل فجأة وبسحر ساحر إلى هذا المستوى غير الطبيعي من القدرات، فمن المنطقي والأكيد والثابت حتما، أن الوصول إلى هذا المستوى من الإمكانيات، هو أولا، نتيجة مسار طويل من الالتزام بمبادىء وبعقيدة وبفكرة المقاومة والمواجهة، ومن الاقتناع الكامل والصادق بضريبة التضحية وبذل الدماء، وثانيا، نتيجة مسار طويل وشاق ومؤلم ومتعب، من السهر ومن العمل الدؤوب في التدريب والتجهيز، وفي تطوير القدرات التكتية والتسليحية، عبر الحصول عليها في أصعب الظروف وأخطرها، من المعارك بين الحروب ومسارات الاستهداف الجوي والصاروخي العنيف من العدو، أو عبر تحديثها أو تصنيعها، وفي اصعب الظروف أيضا، والتي قد تكون أصعب من ظروف نقلها من خارج لبنان وحفظها.
 
أيضا، هذا المسار من النجاح، لا يمكن أن يحصل، لا بل من المستحيل أن يتحقق بفترة زمنية قصيرة أو متوسطة، حيث الدول والجيوش الكبرى عادة، ولكي تصل إلى هكذا مستويات، تحتاج لفترة زمنية كبيرة، تتجاوز أحيانا عشرات السنوات، وعبر تسخير جهود ضخمة، مالية وعلمية ومهنية، وفي ظروف داخلية مؤاتية، غير الظروف التي عاشها حزب الله وما زال وخلال مسيرة طويلة منذ نشأته وحتى اليوم، من الاستهدافات الداخلية والاقليمية والدولية، سياسيا وديبلوماسيا وماليا.

إنها مسيرة الاربعين عاما، انها بالتحديد الحاضنة الأم لهذا المسار الصاخب والشاق، مسار التضحية والعطاء المخضب بالدماء وبالشهداء، مسار مشبع بالعمل الدؤوب وبالسهر وبالتخطيط وبالصبر وبالالتزام، مسار بناء وفرض الردع الاستراتيجي.

 

* نقلا عن : موقع العهد الإخباري


في الأحد 07 أغسطس-آب 2022 12:27:01 ص

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=5732