|
إن من أبرز نعم الله على هذه الأمة وأتمها هي: نعمة تكفله هو سبحانه وتعالى، بحماية القرآن الكريم من كل المحاولات الرامية لتحريفه، أو الزيادة أو الإنقاص في محتواه، بل لقد حفظه كذلك من الضياع والاندثار، فظل خالداً متجدداً حياً فاعلاً معطاءً عبر الزمن، قادراً على الإجابة على كل أسئلة الحاضر لكل جيل، وأميناً في نقل كل تجارب الأمم السالفة، وموجهاً إلى الكيفية التي لا بد من التزامها لبناء المستقبل، وقد صدق أحد أئمة أهل البيت إذ يقول فيما معناه: «إن القرآن حي، فهو يسير مع كل أمة كما يسير الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر».
ولولا أن الله قد تكفل بحفظه لكان حالنا اليوم كحال بني إسرائيل مع كتبهم، التي لم تسلم من التحريف والتزييف والدس والإلغاء والبتر والحذف والزيادة والنقصان، مع العلم أن الدافع للقيام بهكذا تعدٍ على آيات الله جل ذكره، لم يكن منطلقاً من بني إسرائيل باعتبار ما امتازوا به من جراءة على مخالفة أمر الله، والإصرار على التمادي في معصيته، ومعاندة الحق الذي جاء به رسله وأنبياؤه، صحيحٌ كان هذا الأمر واضحاً فيهم إلى درجة العموم لكل مجتمعاتهم، ولكنه يظل التوجه لكل المجتمعات والأمم التي فترت همتها عن مواصلة الالتزام بهدى الله، نتيجة طول المدة التي تفصلها عن مرحلة الدعوة التي آمنت بها، وانطلقت لتجاهد تحت رايتها، وبقيادة النبي المبعوث من الله لهدايتها، ولما انتهت الأخطار المحيطة بها، ومكنها الله من كل شيء، فرحت بما صار إليه حالها، واستراحت لما قد تحقق لها، ظناً منها أن ما نالته هو حقٌ من الاستحقاقات التي هي أمر مفروض على الله لها دون سواها، ثم شيئاً فشيئاً ينشأ الجمود ويتعاظم، وتكثر المخالفات والاختلالات والتجاوزات، التي يكون منشأها الأول النخبة والرموز ورؤوس المجتمع وعلية القوم، الذين يحظون بتقدير واحترام الجميع لهم، ولاسيما إذا كانوا ممَن كان له سابقة طيبة، وأثر مشهور أيام البلاء والاستضعاف، فيضطر الأحبار والرهبان إلى العمل على شرعنة كل ذلك، ليصبح بعدها جزءا لا يتجزأ من الدين الإلهي، ولا فرق في ذلك بين مجتمع ومجتمع آخر، سواءً من كان وجودهم سابقاً لوجود اليهود والنصارى، أم تالياً له.
وإذا كنا كمسلمين قد سلم لنا النص التشريعي بما هو وحي من الله، من كل ما أصاب الكتب السماوية الأخرى، فإن النفسية الإسلامية لم تسلم من التأثر بالوضع العام، ولاسيما العلماء والفقهاء، الذين عملوا على تحريف المعاني والمفاهيم المستوحاة من النص القرآني وتغييرها، بما يتناسب وواقع السلطة، ويلبي حاجة الحكام، ويرضي الأغنياء والكبراء في الوسط الإسلامي، هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد ظل المعممون يخشون التصادم مع الأغلبية من الجماهير، ويحرصون على التقرب إليهم، بغرض كسبهم إلى صفهم، وبالتالي ينالون لديهم المكانة العالية، والحظوة المستمرة، لذلك تجد أن الفقيه كان عبر التاريخ حريصاً على جعل الدين في خدمة ما تعارف عليه المجتمع وألفه من عادات وسلوكيات، ولم يخرج عن هذا الواقع سوى أئمة أهل البيت، ولا يخفى على ذي لب ما لاقاه معظمهم نتيجة ذلك من قتل وسجن وتهجير ومضايقات.
ولعل أصدق الأمثلة التي توضح لنا جزءا يسيرا مما جناه المحرفون للمفاهيم والمعاني القرآنية هو: الفصل بين العلوم، من خلال تقسيمها إلى علوم شرعية، وعلوم غير شرعية، ليصبح الطب، والكيمياء والفيزياء والرياضيات وعلم الجغرافيا والأحياء وكل علم يهتم بالطبيعة أو بالإنسان ليست من الدين، ولربما صارت من المحرمات، لذلك تجد الأوقاف هي من حق طلبة الهجر والمساجد، وليست من حق طلبة المدارس والجامعات والمعاهد التقنية والفنية، والمخترعين والصناع، مع أن القرآن يدعو لدراسة الكون والإنسان، والسعي لتحصيل كل موجبات القوة، والعمل على امتلاك الوسائل الموصلة للحياة الطيبة، التي تضمن العزة لكل مسلم، ولكن نرى أثر العرف المجتمعي الذي صار فقهاً هو المهيمن على القرآن، والمقدم عليه، والأمر والأدهى من ذلك قولنا: «إننا قرآنيون!»، لأن نظرتنا للعلوم والمعارف لاتزال موحية بما ينفي عنا هذا الادعاء، بل يثبت كذبنا على الناس وأنفسنا قبل ذلك كله.
* نقلا عن : لا ميديا
في الجمعة 26 أغسطس-آب 2022 07:43:55 م