|
في عالم السياسة يكون الصمت قاتلا، وإن كان يحمد في سواها، فالصمت عند طوائف في الهند طقس من طقوس العبادة، بل عند بعضهم رياضة روحية أكثر خيرا ونماء، لكنه في عالم السياسة اليوم مذموم مدحور، ولعل الهدنة قد ألقت بظلالها على كل الأبعاد، فما تكاد تلمح شيئا أو تقرأ شيئا مهما في زمن الهدنة، بل كاد يتوقف كل شيء وهذا أمر غير محمود، فما الذي يجري ؟.
ماد الحمقى على أشجار الوقت فقالوا قولا أصبح محط التندر والضحك عند عموم الناس، وظن آخرون أنهم يحسنون صنعا فوقعوا في الخطأ من حيث لا يحتسبون أو من حيث يحتسبون، فالنوايا غائبة لا يعلمها إلا الله، وكاد أن يكون التواكل هو سمة اليوم، فالكثير ترك مواقعه، والكثير شعر بالخذلان، والكثير يترقب ويلوذ بالصمت، حتى أصبح الأمر مثيرا للسؤال: ما الذي يحدث ؟.
حوارات في أكثر من مكان تبعث مؤشرات العاصفة التي تأتي بعد الهدوء والصمت، قضايا الإنسان والصراع الدائر على آبار النفط والغاز وعلى الموانئ في المحافظات الجنوبية تبعث رموز الضياع والتيه، مواقف الكثير من المثقفين في الشمال والجنوب تنذر بكارثة وطنية، فالمثقف حين يصبح بوقاً يبرر غزو بلاده تضيع الحقيقة وتضيع البلاد .
حالة الترهل التي عليها الواقع على الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي، وحالة الركود الاقتصادي وتوقف معائش الناس وتراجع مستوى العيش الكريم عند غالبية أفراد المجتمع، والتضخم في السوق، وتعطل وظائف المؤسسات، وغياب الوعي، وغياب المعرفة في التفاعل مع حركة الواقع، والاستبداد بالرأي، والممارسات القاتلة في الكثير من التعاطي اليومي، تجعلنا أمام سؤال كبير : إلى أين تسير القافلة ؟ ولماذا تضل البوصلة وجهتها ؟.
في فقه السياسة المعاصر ليس هناك من فساد يمارس بل هناك خطوات إجرائية فاسدة، ليس هناك من فساد في الدولة بل هناك هيكل إداري فاسد ومترهل ولم تجدد وظائفه وأهدافه، عالم اليوم أصبح عالما مكشوفا ومفضوحا، ومن أراد إصلاح الشأن فإصلاح الشأن يرتبط بالحريات وبحركة الواقع ووعيه وليس بالهيمنة على زمام الأمور كلها وتعطيل الصلاحيات، فمثل ذلك ليس من الحكمة في شيء، كما أن حركة المجتمع ترتبط بالمعرفة، والمعرفة متسعة الأرجاء والآفاق، فحركة النمو في المجتمع لا تتحقق بالفطرة، ولكنها صناعة تعتمد على المعرفة العلمية للقواعد والأصول العامة في موازين الاقتصاد العامة، ومن لا يحمل مشروعا للحياة – قادراً على تحقيق الحد الأدنى من الكرامة للإنسان – فهو يحرث في بحر دون أن يعود بسمكة في آخر أبحاره ومطافه .
ومن يرى في نفسه الصلاح والخير دون أن ينظر إلى عموم الخيرية في سواه، بل يقدر سوء النوايا وفناء الخيرية، عليه أن ينظر إلى الأثر في الواقع، فإن كان الواقع يتحرك في مسارات طبيعية وفق المعيار العالمي للنمو فقد أصاب، وإن كان الواقع يتحرك في مسارات عكسية وبسرعة تراجع عالية فعليه أن يدرك أنه قد وقع في الخطأ، وأنه قد فاته العلم والمعرفة، فالقضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لا تكون اعتباطا وتسلية بمبررات واهية، قد يكون هذا الأمر مطلوبا في الزمن القديم لكنه في زمن الدولة الوطنية الحديثة هو الضياع والتيه بعينه، فكل تراجع يكون نتيجة لمقدمات، وكل مقدمة خاطئة طريقها الثابت النتائج الخاطئة، ومن وقع في الخطأ لا ينفعه الندم ولات حين ندم .
نحن نسير في طريق مظلم غير واضح المعالم، وفكرة بناء الدولة فكرة عائمة تقوم على النظرية الرياضية الفيثاغورسية بالغة التعقيد وغير واضحة المعالم والأبعاد، ولذلك لم تؤت أكلها على مدى سنوات، لأنها تفتقر إلى الفلسفة، وإلى التسلسل، وإلى الخطوات المنطقية التي تتبعها الخوارزميات في حل القضايا، ولذلك تضع بينها وبين الواقع جبالا من ضبابية الرؤية والتفاعل، وهي غير قابلة للتحقق وقد قالت الأيام لنا ذلك، وقد أصبح من المستحسن وضع قاعدة فلسفية والبناء عليها، والقاعدة موجودة يمكن البناء عليها وفق قيم العصر وتشظياته وأبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية مع الوعي بالمستوى الحضاري المعاصر.
ميزة المعتزلة أنها تقدم العقل على النقل، وميزة الزيدية أنها معتزلة، لذلك فالعقل هو الغالب في التفاعلات والتشريعات التي قالت بها الزيدية، والتسليم المطلق للنص عند الأشعرية عمل على تعطيل حركة التاريخ، وجعلها ثابتة دون تمايز للمراحل، والتسليم المطلق هو الضياع، ولذلك تتحدث السيرة النبوية عن قضايا التكامل مع الآخر التي انتهجها الرسول الأكرم، فهو لم يستبد برأيه في الحروب التي خاضها ولا في القضايا الاجتماعية ولا السياسية، إذ الثابت أنه كان يطرح القضايا على طاولة النقاش وهو المعصوم، لذلك ففكرة التسليم المطلق تتناقض مع المنطق السليم ومع العقل، فالمرء مهما بلغت به المعرفة يظل في حاجة سواه حتى يكتمل به، ولو عمل العرب على تفعيل خواص التفكير لكانوا اليوم أمة عظيمة لكنهم تركوا غيرهم يفكر بالنيابة عنهم فذلوا وهانوا وصغروا ونالهم من الصغار الشيء الكثير، فحالهم حال بائس يتقبلون القضايا من سواهم كليات دون تحليل ونقاش ويخوضون غمار الأحداث دون وعي أو بصيرة، والسؤال: ما الذي تجنيه السعودية من عدوانها على اليمن؟ الجواب: لا شيء، سوى توظيفها لمشاريع أعداء الأمة، وهذي معضلة في حد ذاتها، حين تصبح أداة طيعة بيد عدوك يسخرك فتطلق العنان لتنفيذ مهامه وتنوبه في حروبه معك .
نحن نحارب في جبهة واحدة اليوم، تاركين بقية الجبهات وراء ظهورنا ولذلك من المستحيل أن نتوقع النجاح والفلاح، من أراد النجاح أخذ بأسبابه وتكامل في مشروعه، فالقوة لا تعني العتاد والسلاح ولكنها متعددة المعاني والأوجه فهي تعني القوة العسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فإذا تضافرت وتآزرت القوى تنتصر الأمة وإن لم تتضافر وتتآزر تفشل الأمم.. ونماذج الأمم من حولنا وفي التاريخ كثر لمن ألقى السمع أو كان بصيرا .
في الجمعة 02 سبتمبر-أيلول 2022 07:00:35 م