واحدية هنا أو هناك في قصيدة «ولكن بيتي معي» لابتسام المتوكل
يحيى اليازلي
يحيى اليازلي
كل ما يشار إليه باليد يقيني بلا شك.. ومن هنا نقول إن القصيدة ابتدأت بالإشارة اليقينية.. ووجود حرف العطف «أو».. ليس للاحتمال.. هو أيضا يقيني لأن سياقات النص كله تصب في مسألة الحس القلبي. وبما أننا سنقرأ النص من منظور عرفاني وهو كذلك فعلا عرفاني.. وفيه جوانب حسية أيضا لكن ثمة تقبلا وبنسبة كبيرة لقراءة النص ودلالاته ومعانيه على أساس تجريدي.. وبالتالي فجدلية هنا وهناك لن نخضعها لمنطق المشخصات.. والذي ينفي وجود الشيء ونفسه في مكانين مختلفين.. لكن في عالم التجريد فإن ذلك ممكن جدا.. ولهذا عندما نجد مفردة هنا مكررة مرارا في النص فهي خاضعة للمنطق التجريدي.. وإذن فنحن إزاء نص تقريبا فضاءاته تجريدية ويفيض بمعاني السكينة واليقين.. وإلا فإن اعتبارنا فضاءات النص بيئة مشخصات سيحول السياق العام للنص إلى تيارات من القلق.. ولا بأس فربما نجد بعدا من هذا القبيل هنا وهناك.. وعلى قاعدة لا شيء ثابتا في الكون. وعموما سنجد عرى متناغمة بين قوانين الطبيعة وفقا للنظرية النسبية ووفقا لنظرية الكموم وبين طاقات معرفية وعرفانية ربما يجد عالم ما فوق الذري وما تحته إليها لجوءات لتفسيره.. فتلك اللامتناهيات في المعاني المطلقة وبتصور ما فيها نفحات من تلك اللامتناهيات الذرية في الصغر.. والتي تحكمها برؤية عرفانية قوى ما يمكن وصفها بالميتافيزيقية.. كظهور الضوء في صورتين ما بين ذبذبة وجسيم في نفس الوقت.. هذه الظاهرة التي تجمع بين قوى الطبيعة وقوى الميتافيزيقا لها صور مماثلة وبراهين للتناغم كذلك مع علم التخاطر وتأويل الرؤيا وتجليات الصوفية.
ودلالة البيت كمفردة وكمعنى على السكينة فهو السكن والمأمن والعاصم والموطن والمحل أي محل الأمان والطمأنينة. وفي القرآن ذكر البيت بعدة أبعاد ودلالات فهو بيت الله الحرام.. تهوي إليه قلوب عباد الله المؤمنين. وبيت العنكبوت «وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت».. والمعنى أن بيت العنكبوت واهن بالنسبة لغير العنكبوت وإن كان المغزى في الآية أخلاقيا لكنه بالنسبة للعنكبوت بيته الذي فيه كل مقومات المبيت والبيات والبيتية. وقبلة لقوم موسى «واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة». وبيت النحل.. «وأوحى ربك للنحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون». ومن البيت مفهوم ما يبيت من الأمر. وثمة مئات من الشواهد التي تعزز مفهوم البيت من عدة مناظير.
في قصة امرأة فرعون «قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة» نجد اتحادا في معنى عندك وفي الجنة. وفي دعائها اجتماع زهد وعشق إلهي وعلو مقام وعرفان.. وقالت رب ابن لي ولم تقل هب لي لأن البناء فيه خصوصية.. على نفس الصعيد في حديث النبي عن جبريل أن الله يقرئها السلام أي خديجة وبشرها ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.. هنا تكمن الخصوصية ومن خلال هذه الخصوصية سنتعرف على خصوصية القرب من الله السلام.. إنها قد كانت لمحمد السكينة والسكن والأمن.. فكان الجزاء من جنس العمل.. وهو ما هيأته آسيا امرأة فرعون لموسى.
لا شك أن لدى شاعرتنا أنساقا من ذات التوله.. أو معاني من ذات الأنساق.. يفسره عنوانها «ولكن بيتي معي».. والمعية هنا لا تنبغي للمشخص وإنما للمجرد والمعنى.. إلا إذا كان على نحو يقتضيه منطق الحضور.. ولو كان مشخصا لكانت صيغة الجملة أخرى.. فمعية البيت هي معية المعنى من قولها ولكن بيتي معي.. فيها طمأنة للنفس أكثر منها مكابرة.. ومواساة.. فلذلك فإن العنوان يحمل معنى قول الله «لا تحزن إن الله معنا».. والدلالة في الآية ذات وجهين.. طمأنينة لنفس النبي ومواساة لنفس صاحبه.. في الغار.. ومن هنا نذهب إلى أن الشاعرة تقف من فضائها الشعري في ما يشبه عالم المثل مما يشبه الغار/ الكهف.. وتعالج معاناتها بشيء من طمأنة النفس ولهذا الشيء وجه من المواساة لشخص ما يقف بجانبها في نفس الفضاء.
مانزال نقرأ النص من نافذة التجريد فالبيت والبيوت في النص يحملان نفس المعنى سواء جاءا بصيغة المفرد أو الجمع. لكن على نحو آخر كانت الإطلالة على البيت كموضوع معادل أو النفاذ إلى المعنى من خلال معادل موضوعي هو البيت الذي يعني الملك وبصورة أكثر دقة الحكم.. ويمكن تعزيز هذه الرؤية البنيوية من خلال استخراج النسق السياسي داخل النص وهذا قد يأخذ مساحة. وإلا فإن في عبارة «هنا في التراب الذي صاغَ طينَ البشر»، نسق تاريخي آت من كون اليمن مهد الحضارات وأصل الإنسان الأول... كما أن في عبارة «همُ.. أيها البيتُ قد ضيعوك».. أيضا نسق ديني وسياسي.. وفيه معنى عن الإمامة. وفيه تناص قرآني امتصاصي «فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات».. والآية تعد الإمامة أحد تأويلاتها.
في رؤية للنص من زاوية ملموسة سنتعرف من أجواء الحرب على اليمن على أن ثمة مساكن وممتلكات للأهالي فقدت أو دمرت بصواريخ العدوان.. التي نتج عنها أضرار مادية ونفسية وإنسانية:
«ولكن بيتي معي
أوزعه في البيوت التي سوفَ أسكنها مهجتي
وفي تربة الغد أنبت وعدي:
بأن سأعود
بأن الذي ضاعَ منهم معي»
رأينا كيف أن للنص ظاهرا وباطنا وأن بإمكاننا الارتحال في قراءته بين التجريد والتشخيص وأن ثمة إمكانية للارتحال من تجريد إلى تجريد ومن تشخيص إلى تشخيص.. وفي الأولى وجدنا امرأة عرفانية متولهة في عشق المطلق.. لطيفة العبارة. فكان عشقها بيتها الذي هو معها وبيتها عشقها الذي هي معه.. ثم وهي إذ ذاك تجدها تسكن المشخص في المجرد والمجرد في المشخص.. فالحب الإلهي/ الخبز الذي سوف توزعه في البيوت.. والبيوت/ المشردون الذين سوف تسكنهم مهجتها.. فوجدنا امرأة واقفة على طلل المساكن المهدومة.. هنا وهناك.. هي معنى في المعنى ومبنى في المبنى وذات في الموضوع وموضوع في الذات. وتلك وهذه هي ابتسام المتوكل.. الشاعرة الثورية العدلية.. والصوفية العرفانية.. من باطن الحرف تنثال عطرا وعن ظاهره تنبعث بارودا.
«ولكن بيتي معي»
«إلينا نحن اللاجئين إلى الحلم،
الباحثين عن بيت مثال
نسكنه أحلامنا التي يسكن فيها»
هنا.. أم هناك؟
هنا كان بيتي
هنا في التراب الذي صاغَ طينَ البشر،
على بُعد بحر
وألفي قمر
ترابٌ تشممتُ ضوعَ حشاه
بـُعَيـدَ المطر
تذكرتُهُ في سمار الصبايا
يذوبن بالحسن أعتى الجبال
 أرتنيه
-لونا-
زنودُ الرجال
أرانيه حتى الوتر
هنا في التراب
الذي كم تمنيتُ تسطيرَهُ
مذ
أضاعَ الطريقُ إلى باب بيتي خطاه!
رصفتُ على مطلع الحلم نفس الطريق
وددتُ الرجوعَ إلى البيت
لكن!
همُ.. أيها البيتُ قد ضيعوك
أعادوا الترابَ ترابا
ولم يأبهوا لبكاء الحجر
ولكن بيتي معي
أوزعه في البيوت التي سوفَ أسكنها مهجتي
وفي تربة الغد أنبت وعدي:
بأن سأعود
بأن الذي ضاعَ منهم معي
وسوف أعيدُ الشجر
أبث الذي ليس يفنى
من العطر
والقلب في كل أرض
وكل أثر
أنا من سيرفو تفاصيلَ أياميَ القادمات
أنا من
يُشيعُ
الحياة
ومن دمر البيت
لن يلقى غيرَ الرفات
غدا..
سوف تودي به الذكريات!
وبيتي سيأتي معي
وأيامُ عُمري
ستغرفُ من ذلك البيت
أيامها المقبلات
هنا أو هناك
سأبني الزمانَ الذي سوفَ يأتي إلي
بما ينقصُ
القلبَ
كي
يندهش
وما يكملُ البيتَ
كي
يرتعش
وما يجعلُ الراحلينَ!
يؤوبون وقتَ السمر
وما يجعلُ الأرضَ مثقلة بالحنين
وما يجعلُ العمرَ يهتفُ في كل قلب:
إليكَ الحياةَ
فَخُذها
وعش
هنا..
أو
هناك!
 

* نقلا عن : لا ميديا


في الجمعة 07 أكتوبر-تشرين الأول 2022 11:47:43 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=6098