|
لا أتذكر إلا أن اسمه كان هيثم، وهو فلسطيني، لكنه كان بالنسبة لي فلسطين بذاتها؛ بترابها بزيتونها، ومروجها وجراحها التي سبقت جيلنا بأكثر من أربعة عقود لكنها ولدت فينا وكَبُرت خلف ضلوعنا بصمت ضاجٍّ جراحاً ووعداً مؤجّلاً من جيل إلى جيل. ولا تزال للحظة تنزف دماً ودمعاً وبطولات بلا ضفاف.
صديقي فلسطين
كان اسمه هيثم، وكان فلسطينياً وفلسطيناً. كان -لحسن حظي- زميلاً لي في مدرسة النهضة الابتدائية بتعز في الصف الدراسي نفسه، لكن في شعبة أخرى، ترتيباً هجائياً، لسوء حظي، وقد بذلت جهداً كبيراً لأتعرف عليه وأعقد معه صداقة، فذلك كان كأن أتنفس هواء فلسطين وأحزانها عن كثب. “ربما تلك هي معضلة الفلسطيني؛ فكما هو في أنظار أكثريتنا أيقونة نحمّلها كل المُثل ونتوقع منها سقف كمال سُلوكياً وقيمياً خلاف ما نتوقعه من الناس العاديين، هو من جهة مقابلة شريد ومبعد عن وطنه ويفتقر لمعظم حقوق ومزايا الإنسان العادي!”.
في إحدى الفسح تحقق مبتغاي الذي ناضلت من أجله، ولعبنا كرة القدم والـ”سلبيت - الغمّاية - الغمَّيضة”، وأصبحنا صديقين، وكان الأصدقاء يجدون وجه شبه بيننا، عدا أن هيثم صريح البياض، وهذا كان يدعوني للزهو... كانت صداقتي بهيثم من أسعد ما حدث لي في المرحلة الابتدائية.
معمدانية صامد
بالنسبة لجيلي فإن العدوان الصهيوني الشامل على لبنان (الاجتياح) في العام 1982، والذي أفضى لاحتلال بيروت وكامل الجنوب، كان بمثابة صورة حية مصغرة لفاجعة النكبة التي لم نشهدها. وبما أنني لا أكتب عن الأبعاد الكبرى للقضية والصراع، بل عن تفاصيل صغيرة اجتاحتني واحتلت وجداني من خلالها فلسطينُ المحتلة بحيث لا مجال لأن أتحرر منها إلا بتحريرها؛ فمن المناسب أن أعود لفلسطيني التي لا تزال طفلة في ذاكرتي كطفولة الذكريات الصغيرة التي تخلقت فلسطين منها لتصبح مَجرّة كونية لا محض قُطر عربي سليب نتهجاه في مقررات الإنشاء والجغرافيا والتاريخ لنحصل بموجبه على علامات جيدة تستحق تصفيق الزملاء وزيادة مستحقة على الآباء في مصروفنا اليومي.
مدخلات اللوحة الفلسطينية لي كطفل كانت كالتالي: ساعة البث اليومية المخصصة لصوت فلسطين في إذاعة صنعاء والإذاعات المحلية، تتدفق من أثيرها: “فلسطين داري ودرب انتصاري...”، “سأحيا فدائي وأمضي فدائي وأبقى فدائي...”، “خلي المدفع نار مولع ليل ما تخلي نهارهم يطلع”، وفرقة “أغاني العاشقين” التي اقتنيت حينها كل ألبوماتها تقريباً وعشت حماساتها بكل جوارحي حتى انسلخت عن يوميات الحياة من حولي، ووددت لو أصحو على مدينتي وقد باتت مدينة من مدن تخوم فلسطين، لأعيش حبها وجرحها وأثأر لدموعي التي انهمرت دائماً مع “زهرة مدائن” فيروز وأمنح روحي أثيراً مفتوحاً على رائحة بواريد الفدائيين النضاحة برجولة ملحمية لا نظير لها في اليوميات القارسة لتاريخ عربي داجن وبلا نبض.
نصف سندويتش لي والنصف الآخر لفلسطين. نصف مصروفي لمقصف المدرسة والنصف الآخر لشال فلسطيني مُوشَّى بالعلم الحزين كنت على موعد معه خلف فاترينة “وكالة صامد” بتعز. كنت أزوره يومياً وأعاهده على عناق قريب... واكتمل مبلغ التأشيرة (25 ريالاً) التي تتيح لي عبور البرزخ الزجاجي لفاترينة الوكالة والاعتناق بـ”كوفية-صامد” المغزولة بدموع مريم المغارة وطفلها والأسلاك الشائكة وبارود الفدائيين...
خرجت من بوابة المعرض فدائياً ويسوعاً متوجاً بإكليل غار وشوك؛ وكأن المعرض كان معمدانية ثورية لا محلاً تجارياً يبيع مشغولات تراثية تنتمي لبلد عربي اسمه فلسطين. لقد جَسَرتُ بـ”الكوفية الموشاة بالعلم الجميل والحزين” حضيض الخارطة العربية وهاويتها، وعبرت إلى أهدابها نكبةً وخمسة أجيال من نقطة زمنية ضئيلة ومكبلة بيوميات عربية تتعرق زحاماً وخواءً. نقطة زمنية مقدارها عشرة أعوام هي عمري حينها أو تزيد شهوراً.
بعيون أبي
“مستودع النجاح لصاحبه أبوصلاح”. لا يكف أبي يلعن الأنظمة العربية مفجوعاً بـ”اجتياح لبنان1982”. لم ألحظ في يوم من الأيام أن أبي كان إلا رجلاً مسكوناً حتى العظم وسويداء الخافق بالقضايا العربية الكبرى، وفلسطين في قلبه وقلبها. كنت أقرأ أخبار الصراع العربي-الصهيوني في ملامح وجهه؛ إذ تغيم وتتلبد أو تشرق وتندى بِشْراً. كان دكانه -وهو أحد أقدم المحلات في شارع التحرير بتعز- أشبه بمكتبة عامة ومنتدى سياسي وفكري منه بمحل للملبوسات والعطور. وكثيراً ما زار دكاننا زوار الفجر عوضاً عن الزبائن، ليذهبوا بأبي إلى غيابة المساءلة والسجن. وليس غريباً أن يطلق أحد خطباء منابر الخونج والوهابية على دكاننا حينها “وكر الشيطان” في خطبة جمعة!!
كانت التجارة -إذن- على هامش اهتمامات أبي، رغم اشتغاله بها وهو الذي اغترب باكراً وعمل تاجر جملة متنقلاً بين “سكاكة وعرعر وتبوك” في المملكة السعودية، وكان بوسعه أن يكون أحد كبار تجار مدينتنا؛ لكن الطبيعي بالنسبة لشخصية كشخصيته العصامية الملتزمة بالقضايا الكبرى كان أن يُنفى عن المملكة بتهمة “تشكيل خلية ناصرية” مناهضة لنظام بني سعود، وقد قضى فترة في سجون المملكة ليجري ترحيله عنها نهائياً.
كانت المرة الأولى التي هدر خلالها في مسمعي اسم لبنان بقوة، حين ألقى أبي كلمةً في فعالية بمديريتنا (1979) حضرها ممثلون عن الجبهة الوطنية الديمقراطية وعن حكومة صنعاء (الدكتور حسن مكي) كطرفي صراع؛ بغرض تدشين حوار وطني قاد أبي جهداً مميزاً فيه كرئيس لهيئة تطوير تعاوني و”لجنة تصحيح سابقاً”.
قال أبي في كلمته حينها: “عليكم أن تأخذوا العبر من دروس لبنان الحرب الأهلية، وما لبنان عنكم ببعيد”!
حينها دوت “لبنان” للمرة الأولى في مسمعي، واتضح لي سياق حديثه عنها لاحقاً من خلال نقاشاته مع رفاقه وأصدقائه في “وكر الشيطان”، الاسم الذي أطلقه خطيب الخونج على دكاننا!
في صبيحة يوم من أيام تعز أواخر العام 1982، في دكاننا، كان أبي يكاد يطير من البِشْر والسرور وهو يتحدث عن عملية فدائية كبرى وقعت في بيروت قُتل خلالها عدد هائل من الضباط والجنود الأمريكيين؛ عقب أسابيع من تكدره الشديد بأخبار مجازر العدو في صبرا وشاتيلا بحق الفلسطينيين. وبدأت المجلات العربية التي كان أبي يحرص على شرائها بتوقيت صدورها تنشر التفاصيل والصور، وشاهدت صور عملية فندق المارينز الشهيرة على صفحات مجلة “المصور” المصرية إن لم تخني الذاكرة.
قال أبي بفخار: للبنان رجاله وسيتطهر من خنازير الاحتلال بإذن الله.
كان لبنان يولد -بالفعل- من تحت الأنقاض بولادة “حزب الله”، الذي أبقى على لواء العمل النضالي المناهض للكيان الغاصب خافقاً لا يُنكّس بخروج جيش الثورة الفلسطينية عن بيروت عقب “الاجتياح”!
ذلك هو لبنان كمنارة تحرير تشير إلى فلسطين بعيون أبي، وأما بعيوني فكان لبنان حينها إصدارات “بساط الريح” وروائع الأدب العالمي المصورة، وكنت قد شاركت بمسابقة في أحدها طمعاً في الفوز بـ”جريندايزر مطاطي”، وطلبت إلى أبي أن يصحبني إلى البريد حتى أبعث برسالة المشاركة، ووافق بعد إلحاح شديد مني؛ فـ”لبنان تطحنه الحرب ومش فاضي لمراسلات أطفال”، كما قال حينها ضاحكاً من إلحاحي في الطلب.
بعد شهور وشهور من انتظار طرد بريدي مشحون جواً من بيروت يحمل إليّ “جريندايزر”، لم يصل الطرد؛ لكنني وصلت إلى تراب “أغاني العاشقين” و”زهرة” فيروز وبواريد الفدائيين وبرج البراجنة وبيروت الغربية وضاحية نصرالله، المضبوطة على ساعة القدس ووعدها. وصلت إلى فلسطين، إلا نهدة وطلقة بندقية!
أنا فلسطين
إلى صديق طفولتي، هيثم، الفلسطيني الذي لم أحفل باسمه الرباعي، مكتفياً بأنه فلسطين... إلى الشال الموشى بالعلم الجميل والحزين... يكفيني أنني مازلت طفلاً أمام هذه الصورة وفيها، وأن فلسطين التي كَبُرت فضاقت بها قلوب العرب الكبار لا يسعها إلا قلب طفل هو أنا وأنت وكل الأطفال العرب الذين يهربون من درب الأعمار لكي لا يقعوا في شِراك شيخوخة الذات العربية وفضيلة العقل السياسي الجبان وحكمة المفاصل المرتعدة ونقرس الهوان الطويل!
* نقلا عن : لا ميديا
في الثلاثاء 08 نوفمبر-تشرين الثاني 2022 09:06:48 م