|
دولة القانون هي دولة المواطنة المتساوية، وقوة الدول إنما تكون في مستوى احترامها لمبدأ سيادة القانون وفي قدرتها على التوحد من خلال هذا الاحترام وليس من خلال الممارسات الخاطئة أو الهنجمة وإرهاب المواطن، وفي رعايتها للتعدد والتنوع وفي الاستفادة من الآراء المخالفة والمعارضة وحمايتها والحوار معها وليس إسكاتها لأن المعارضة المسؤولة هي الوجه الآخر للسلطة وفقاً للدستور والقانون والمنطق السليم الذي تبنى على أساسه الدول المحترمة، وهي فريضة وفقاً للدين لأنها شكل من أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل هي أهم ما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدول المحترمة هي التي تحترم المال الخاص المحترم أي القائم على الربح الحلال، احترامها للمال العام لأن فيه حق لكل مواطن وليس من حق الحاكم التصرف به وإلا كان سارقاً وخائناً للأمانة هذه قواعد وأسس دستورية وقانونية ودينية وأخلاقية بحاجة إلى قضاء عادل مستقل لتطبيقها وليست بحاجة للمزايدات أو إلى هيئات تنتقي مكافحة الفساد بناء على توجيهات من السلطات التي تمارس الفساد المالي وأخطر منه الإداري وأبرز مظاهر الفساد الإداري عدم احترام القانون بحجة أنه ليس قرآنا.
وتكمن أهمية المعارضة كذلك في تلمس أين تكمن الثغرات لسدها والتعرف على مكامن الخلل وأسبابه وفي تنبيه السلطات وتذكيرها بواجباتها في حسن الإدارة وتوفير الخدمات الضرورية للمواطن والحرص على تحقيق العدالة وسقي شجرة الحرية ، وفي حماية الأقليات وأصحاب الرأي المخالف وليس قمعهم والاستقواء بالأكثرية الموالية للحكم، فالأكثرية في معظم مراحل التاريخ إنما تكثر بالمنافقين وتتغذى بالنفاق، والحكام غالباً من عشاق المنافقين إلا من رحم ربي ويا للأسف، وغالبية الأديان والأفكار والمذاهب بدأت أقلية مضطهدة ثم انتصرت أو امتحنت بالنصر الظاهر وتكاثرت بالموالين أو بالأصح بالمنافقين الموالين لكل حاكم ما دام حاكماً فكان ذلك سبباً رئيساَ في تأليب الناس عليه من خلال تأجيجه أسباب الخلاف والصراع بدل التعددية في إطار الوحدة القائمة على التعايش والقبول بالآخر المختلف، لأنه لا يطيق الاختلاف.
ومن العجائب أن بعض الدول تشجع على العودة إلى أعراف القبيلة، في حين أن بعض المنتمين إلى القبائل وصلوا إلى قناعة بأن القانون هو ما تقوم عليه الدول وليس الأعراف، وكل المواطنين ينتمون إلى قبائل لكن العرف لا يصلح لبناء الدول، والقبيلة والعرف القبلي مادة خام تستفيد منها المجالس التشريعية للدول في صياغة قوانينها فهي محطة تاريخية سابقة لظهور الدولة، وحين نتحدث عن العرف لا يعني التنظير للعودة لحكم القبيلة لأن مثل هذه الدعوة تعكس حالة من الغفول والتبلد وهي دعوة إلى الفوضى بل وإلى المستحيل فالقبيلة من مكونات الشعب المكون من عدة قبائل وسكان آخرين انتقلوا إلى المدن فصاروا نواة للمجتمع المدني لكن تخلف سلطات الدولة عن إدراك أهمية بناء الدولة المدنية دولة القانون والعدالة أبقت صلة كثير ممن انتقل من الريف إلى المدينة بالقبيلة أقوى من صلته بدولة القانون، والشعب في مجمله ركن من أركان الدولة الموحدة بل هو الركن الذي يملك بقية الأركان.
ومن المستحيل على أي مكون قبلي أو حتى سياسي أو ديني أو مذهبي القيام بتوحيد الدولة تحت راية قبيلته أو مذهبه أو حزبه السياسي، وإذا حصل ذلك بالقوة والغلبة أو الحيلة في أي مرحلة تاريخية فإنه سرعان ما تنهار الدولة المبنية على هذا الأساس، لأن القوة في بنية أي دولة إنما هي وسيلة لحفظ الأمن والنظام وتحقيق العدالة وحماية الحقوق والحريات وليست أداة لقمع الحريات وحماية الحكام المستبدين، أما العصبية التي ذكرها ابن خلدون في مقدمته التي تؤثر في قيام الدول وانهيارها والتي يتحكم فيها الحاكم الفرد باستخدام أسرته وقبيلته والموالين له من القبائل الأخرى هذا النظام في بناء الدول عفا عليه الزمن وإن بقيت بعض معالمه في الدول المتخلفة لأنه نظام لا يقوم على معايير واضحة لتحقيق العدالة ولهذا فهو غير قابل للاستقرار، وهذا بالتأكيد لا يعني أن الدول الحديثة أو دولة القانون والمواطنة قد اكتمل بنيانها وزالت عنها عوامل عدم الاستقرار ولكن حركة تقدم الأنظمة السياسية مستمرة بحيث غابت في كثير من الدول بعض مظاهر توزيع السلطة والثروة بصورة يتحكم فيها الولاء الشخصي والعائلي للحاكم الفرد بل وانتهت سيطرة الحكم الفرد وأصبحت الحياة السياسية مكونة من سلطة ومعارضة تتنافسان على تقديم البرامج وتنفيذها وممارسة النقد والرقابة على أداء من يصل إلى السلطة وتداولها سلمياً وهذه هي أهم معالم ومعايير الوصول إلى السلطة وممارستها في الدولة المعاصرة، وهذه المعايير لا مفر من الالتزام بها بصدق لتحقيق السلام الاجتماعي والمصالحة الوطنية الحقة وإلا بقيت أسباب الصراع على السلطة مفتوحة الأبواب والنوافذ ولا مجال لأي شكل من أشكال المغالطة.
سوف تبقى الأماني
تطير بنا في الفضاء الفسيح
وتبقى الرياح تهز العروش الكسيحة
في الثلاثاء 27 ديسمبر-كانون الأول 2022 07:54:32 م