|
إذا كـنتِ جئتِ لتبكـي، لا تأتـي! أنـا لم أفعل شيئاً لتُصابي بكل هذا الحزن.
هكذا وجّه كريم يونس الكلام لوالدته غاضباً، حين جاءته ذات زيارةٍ له خلف قضبان الأسر. ويبدو أنّ كريم كان يختال بنظرة الثائر الذي يعتبر أنّ دمع الأم نقطة ضعفه، يوهنه حد الانكسار، ويختار الموت في حال تخييره بين رؤية دموع أمّه والإعدام. لكن والدة كريم لم تكن تملك سوى قلب أمّ، لا يعترف بقوانين الثوّار، ولا يعرف سوى طعم الفقد والحرمان، وأنّ بينها وبين فلذة كبدها سوراً عالياً دونه معجزاتٌ لن تأتي.
فقد مرَّ على كريم في العقود الأربعة الماضية، وهي مدة اعتقاله، ثماني عشرة من عمليات التبادل بين الكيان المؤقت ودول ومنظمات عربية وفصائل فلسطينية، من ضمنها عمليات تبادل سورية ومصرية وأردنية، وعشر عمليات مع لبنان، وعمليات تبادل مع فصائل فلسطينية.
18 عملية تبادل منذ لحظة اعتقال كريم يونس في كانون الثاني/ يناير 1983، وحتى العام 2011، تحرر خلالها أكثر من ثمانية آلاف أسير فلسطيني وعربي. وكانت أمّ كريم في كل مرةٍ من تلك المرات تنتظر حدوث المعجزة؛ لكنها ستفارق الحياة وهي في حال ترقبٍ وانتظار، تنتظر معجزةً لترى "كريم" في بيته بين أحضانها؛ لكنها انتظرت عصارة القهر واستشعرته. وحين غادر كريم سجنه لم يجد من أمّه ما يحتضنه، سوى شاهد قبرها.
هؤلاء الفلسطينيون يدفنهم الأمل، فيعيدون زراعته داخل قبورهم، فينبت آمالاً وأحلاماً وحباً للحياة والموت معاً، وكأنّهم يحبون الموت في سبيل الأرض؛ لأنّه السبيل الوحيد لإعادة زراعة الأمل؛ هؤلاء هم الذين تتشربهم الأرض، لا تعرف من يعشق الآخر أكثر، وأيّهما يُقتل عشقاً وأيّهما يموت كمداً، وكلاهما ينتظر وكلاهما يفتخر، فهذا يفتخر بأنّ عشق الأرض قتله، وتلك تفتخر بأنّ باطنها كان المستقر والمستودع والحضن الأخير.
ذاك الطالب في كلية الهندسة، الذي كان يتابع إحدى تجاربه في المختبر على مقاعد السنة الجامعية الثانية، والذي اقتحمت قوة خاصة من جيش العدو عليه مختبره، واعتقلته في ذلك اليوم، لم يكن يدرك أنّه لن يرى الشمس أربعين عاماً، ولم يكن يدرك أنّ جيلاً كاملاً من عائلته سيفنى دون أن يتمكن من إلقاء نظرة الوداع عليهم. جده وجدته وأبوه وأمه وأخواله وأعمامه، جميعاً قتلهم الانتظار وقهر الاحتلال، جميعاً قتلتهم كلابُ "إسرائيل" وسجانوها، وقُتلوا جميعاً قهراً دون وزرٍ سوى أنّ أيدي كريم كانت في القيد.
إنّ أعظم هبات الله هي الحرية. والقيد هو أسوأ اختراعٍ بشريّ؛ لأنّه حرمانٌ في أقصى درجاته وأقسى معانيه، فكيف إن كان الحرمان ظلماً يمارسه عدوٌّ ظلومٌ غشوم، يستل حريتك من بين عينيك، ويغزلها أمامك كهولةً وشَيباً، ويعتو على سنينك بالوهن والمرض والعجز، كما عتا من قبل على بلادك وأرضك وشعبك ومصيره؟!
يعتبر الكيان المؤقت أنّ اعتقال كريم يونس شأنّ داخلي، وهذا يحرم "كريم" من حظوظ الوجود على قوائم التبادل. وهنا لم يكن احتلال الأرض وتشريد الشعب فقط هو النقمة، بل فرض جنسية العدو على المعتدى عليه عدوانٌ جديد، وهو بمثابة الفخ لا المنحة، ففلسطينيو الداخل المحتل يرزحون تحت احتلالاتٍ متراكمة، خصوصاً من اختار منهم طريق ذات الشوكة. والاحتلال، الذي يأخذ الشكل المدني، هو ذروة العدوان العسكري؛ لأنّه يحاول تجريدك من ثقافتك وأصولك، ويسعى لاقتلاع جذورك، ويريد أن تكون طوع أمره؛ لكن دون حقوقٍ تساويك به أو حتى تقاربها في الشكل أو المضمون.
لذا يهددون كريم يونس بسحب جنسيته، وهي الجنسية الفخ، التي مكث في سجنه أربعة عقود وكانت قيداً فوق قيده. أتهددونه بسحب لعنة حياته؟! أم تهددونه بانتشاله من الفخ؟! إنّ كريم يونس لا يهتم بأوراقكم، بل لا يهتم بوجودكم؛ لأنّه يدرك بحسّ الثائر أنكم زائلون كما زالت قيوده، وأنّكم عابرون كالسنين التي عبرت فوق جسده وأحلامه وشبابه، وأنّ كيانكم كان صدفةً تاريخية شاءت الأقدار أن يكون كريم يونس أحد المضحين لتصحيحها، وإعادة التاريخ إلى دورته الطبيعية وإلى سِكّته، الممتدة منذ فجر التاريخ وحتى قيام الساعة.
* نقلا عن : لا ميديا
في الإثنين 16 يناير-كانون الثاني 2023 07:28:14 م