|
بعد يوم عمل شاق ومضن ورتابة مملة، صعد جميع الموظفين الباص وبعد اكتمال عددهم وامتلاء المقاعد.. شغل السائق محرك الحافلة
كل راكب يحمل من الهموم ما ينعكس على ملامحه المقتضبة، شرد الكثير منهم مفكرا ماذا سيفعل والى ما سيأول اليه حاله..؟
أرخت تلك رأسها على زجاج الحافلة متملمة تطالع الناس ولسان حالها يقول: رغم كل شيء الناس لازالت تعيش.
وذاك بدأ يتمتم لزميله بصوت منخفض شارحاً وضعه بتذمر، متسائلا: كيف سنعيش في الوضع كيف سأشبع أولادي؟!
والبعض يسمعهم ويحدث نفسه قائلا: لست أنا الوحيد المكدس بالمهموم، و المغموم.
كانت بادية على ملامحهم هموم وأثقال عجزوا عن تخفيفها فالواقع يفرض عليهم ما لم يطيقوا حمله.
قطع أحدهم حبل الصمت ذاك قائلا:
ما آخر أخبار الراتب؟!
وهل فعلاً اتفقوا على أن يسلموا لنا رواتبنا السابقة منذ عام ٢٠١٤م، حينها تعالت الأصوات.
كان ذاك السائل على الراتب قد دق على الوتر الحساس، وكأنه قرأ أفكار الجميع.
كانت الأحداث قد تسارعت خلال سبع سنوات فائتة وقلبت العديد من الموازين.
لأنها سبع عجاف شداد مرت على شعب بأكمله ذاق فيها العذاب ألوانا. كانت حربا ظالمة قام بها المتجبرون على وطن الحكمة والإيمان، وأضحت تبعات ذاك العدوان تنخر في جسد المواطن اليمني. لكنه وبكل فخر اجتاز تلك الصعاب وأفاق من عثراته كونه نما في موطن عصي، فيه من تقلبات الزمن ما لا يطيقه إلا القليل من الشعوب.
ما سبب الحرب ولِمَ وكيف وكم ومتى ومن المنتصر؟
كلها لها أجوبة سيكتبها التاريخ.
لكن الإنسانية هنا ذُبحت من الوريد تكدست تلك المجازر لتصبح رواية لا تنتهي لمأساة.
هي دماء لأنفس لا تحصى ولا تعد، وهي دمار شامل اقتات البشر والحجر.
هي خوف ورعب للآمنين في مساكنهم
هي دمعات للثكالى هي انتهاك للطفولة. هي.. وهي.. جرائم لا تغتفر بحق الإنسانية.
كان كل من بالحافلة قد طالته نار تلك الحرب التي قال عنها أحد وزراء الجوار أنها عبثية
فلاموه وقللوا من شأنه.
نعم حتى أولئك الأمميون اجحفوا في تغافلهم، وباتت شعاراتهم مجرد خواء يمقته كل يمني طالته تلك الحرب الخبيثة وأقلقت مضجعه.
كان البعض متفائل بالنسبة لما تتناقله مواقع التواصل من أخبار الراتب وإيقاف الحرب والبعض متشائم كونه قد مل الانتظار لهذه اللحظة. كون تلك الوفود والوساطات العمانية وغيرها قد تكررت بشكل يبعث اليأس.
ابدى كل فرد في الحافلة رأيه ما بين مكذب يائس ومصدق متفائل.
وقال أحدهم: كنت أحلم بامتلاك سيارة وبيت واليوم احلم بتوفير قوت أولادي وتوفير دواء والدتي.
وأضاف آخر: بتنا نتضور جوعاً نحن وأولادنا وبالكاد نجد ما يسد رمقنا.
أتعلمون انقطاع الراتب ليس بالأمر الهين، تجرعنا الأمرين، فهل بالفعل ستنتهي هذه الحرب اللعينة.
ردت على سؤاله إحدى الموظفات قائلة: كلهم كذابين مستفيدين من الحرب نحن الناس البسطاء وقود هذه الحرب أما هم فتجار حروب.
قاطعتها أخرى بقولها: أنت تجهلين الحقائق ولا تدركين أننا انتصرنا وجعلنا العدو يرضخ لمطالبنا بعد أن ماطل لأننا اصبحنا قوة لا يستهان بها واصبح العدو يهابنا لأننا أصبحنا نصنع السلاح ونصيبه في العمق. وشاركهم السائق بقوله: هي لعبة سياسية انتو لا تفهموها.
بين الفنية والأخرى كان السائق يختلس النظر إلى مرأته المتدلية من وسط سقف الحافلة ليشارك الركاب حديثهم ويدلو بدلوه ضمنهم، وكل يتحدث حسب مستواه الفكري ومدى استيعابه للمشهد الحاصل.
قالت إحدى الموظفات: لا ترفعوا سقف أحلامكم وتطمحوا للمستحيل، حدثوني عن نصف الراتب الذي هو امر قد تحقق على أرض الواقع، أما هذا الهذيان فلا اصدقه لطالما ادوشونا به، تعبنا من تلك المفاوضات والوساطات غير المجدية، كان اليأس قد بلغ حده في نفوس معظم الركاب من أن تصطلح أمور البلاد وتعود المياه لمجاريها، فما حدث لهم لم يكن بالهين كون تلك الحرب اللعينة قد سلبت منهم كل جميل حتى تلك الأمنيات.
عدوان سافر باغت العاصمة صنعاء في ليله 26 مارس من عام 2015 كان بمثابة الصاعقة، طلعات جوية تتالت لا تعد ولا تحصى وفي كل مدى تشتد ضرواة ووحشية قتلت ودمرت وشردت بلا هوادة.. والعالم صامت.
وخيم السكون مجددا في الحافلة فرغم كل ما حدث الكل يطمح بالعيش الكريم.
احتدم النقاش بين ركاب الحافلة، وارتفعت الأصوات متذمرة من الوضع وعلى مسافات متباعدة كان ينزل الركاب والتشاؤم بادياً على ملامحهم، فهم محبطون تماماً من عودة الراتب واستقامة الحال.
ولكن روح النكتة لم تفارق بعضهم فأضحوا عاملاً مؤثر قلص شحنات الغضب والتشنج تلك.
وكان العم علي في إحدى زوايا الحافلة يستمع للجميع بصمت، كان الشيب قد زحف على شعر رأسه، فبات مموجا مع الشعر الأسود، مما عكس ملامحه الحصيفة التي تدل على خبرته بصروف الزمان، وكان هو آخر الركاب.
فقال له السائق ممازحا: أين كنت شارداً ياعم علي قد حدثت حرب طاحنة على موضوع الراتب.
فلوى العم علي شفتيه وأعقب ببسمة باهتة قائلا:
ياولدي في الأخير لن يصح إلا الصحيح.
ونزل من الحافلة صوب المجهول، فحاله كحال غيره من الموظفين قد هدته الحرب وطحنه الحصار، وأصبح كما يصور نفسه مجرد بقايا لإنسان.
* نقلا عن :الثورة نت
في الثلاثاء 07 فبراير-شباط 2023 12:25:35 ص