الانتماء والهوية لدى شعراء العرب قبل الإسلام"3"
حسن المرتضى
حسن المرتضى

  

الفرع الثاني: الانتماء الواسع:

تتوزع مراتب الانتماء بمفهومه الواسع على درجات تبدأ من أدناها وصولاً إلى أوسعها فتبدأ في المرتبة الأولى من الانتماء إلى ميثاق أو قانون يحكم بغض النظر عن القبيلة التي يقع عليها وزر الخروج على القانون فالكل ملزم بتطبيقه وتتسع في أن يكون الانتماء إلى ملك يسود إلى قبائل كثيرة فالانتماء إليه لا إلى القبيلة أو إلى الأرض وهذا ممقوت لكنه كان عند العرب سائد بكثرة...

ثم يزداد التوسع في الانتماء إلى الأرض المدينة الفاضلة بغض النظر عن القبيلة التي تسكنها وإنما يجب أن تتوافر شرائط بعينها فيمن يحكمها وإلا هاجر عنها صاحب هذه الفكرة ثم تتسع فكرة الانتماء إلى الجنس العربي بأكمله بإزاء سائر الأجناس، بحيث يصبحون كياناً واحداً في مواجهة أي جنس آخر من العرقيات التي تغزو عليهم.

ولكن المسألة تتسع حتى تصل إلى آخر درجات الاتساع وهو الانتماء إلى كل الأرض وأنهم هم المخولون بإدارتها وزعامتها من دون الناس.

المرتبة الأولى: الانتماء إلى قانون – يدعو إلى تنظيم الأمور والسلم – وهنا مثالين أولهما الحارث بن حلزة وثانيهما هو زهير بن أبي سلمى.

1- الحارث بن حلزة – الانتماء إلى عهد أو ميثاق معين ينبغي الالتزام وعدم الخروج عنه يقول الحارث شاعر بني بكر رداً على عمرو بن هند يقول الحارث:

وأتانا من الحوادث والأنبا ء خطب نعنى به ونساءُ

أن إخواننا الأراقم يغلو ن علينا في قيلهم إخفاء

يخلطون البريء منا بذي الذ نب ولا ينفع الخلي الخلاء

زعموا أن كل من ضرب العيـ ر موال لنا وأنا الولاءُ

أيها الناطق المرقش عنا عند عمرو وهل لذاك بقاءُ

لا تخلنا على غراتك إنا  قبل ما قد وشى بنا الأعداءُ

حذر الجور والتعدي وهل ينـ قض ما في المهارق الأهواءُ

وأعلموا أننا وإياكم فيـ  ما اشترطنا يوم اختلفنا سواءُ

عننا باطلاً وظلماً كما تفـ  تر عن حجرة الربيض الضباءُ

فما حدث من ميثاق يجب تطبيقه، هذا هو الذكاء بعينه من الحارث فكما ذكرت سابقاً أن عمرو اتخذ من إخلال بعض بني بكر بالعهد ذريعة ليطالب بحقه في الملك وأضاف إلى ذلك إهانة أمه، فإن الحارث أتخذ ذريعة أذكى من ذريعة عمرو لكي يدافع عن الملك عمرو بن هند فإن القانون الذي هو العهد والميثاق الذي أبرم يسري على الجميع وإنما الملك مجرد منفذ له والعقوبة تسري على الجميع سواءً قبيلة تغلب أو بكر فالملك فوق الجميع فإذا أحدث إخلال من قبيلة الملك يرجع في حل المشكلة إلى الملك وليس أن تعاد المشكلة إلى أن الملك هو من صنعها، يقول في ذلك الحارث مدافعاً عن قومه أنهم ليسوا هم الذين أحدثوا خللاً في العهد والميثاق:

ليس منا المضربون ولاقيـ  س ولا جندل ولا الحذاءُ

أم جنا يا بني عتيق فإنا  منكم إن غدرتم براء

وثمانون من نهيم بأيد يـ   هم رماح صدورهن القضاء

تركوهم ملحبين وآبوا  بنهاب يصم منها الحراء

أم علينا جرى حنيفة أم ما  جمعت من محارب غبراءُ

وإما عن دفاعه عن الملك وأنه فوق القبيلتين:

ملك مقسط وأفضل من يمـ                شي ومن دون ما لديه الثناءُ

أيما خطة أردتم فأدو  ها إلينا تشفى بها الأملاءُ

 

ملك أضرع البرية لا يو  جد فيها لها لديه كفاءُ

ليس ينجي الذي يوائلُ منا  رأسي طود وحرة رجلاءُ( )

 

2- زهير بن أبي سلمى قانون السلم والإصلاح – عابراً للقبائل جميعاً (المتحاربة)-

وذلك في مدحه من قام بدفع ديات القتلى بين قبيلتين من دفع الديات لم يكن من إحدى هذه القبائل وإنما محب للسلم يقول في شأن السلم وذم الحرب زهير( )

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله   رجال بنوه من قريش وجرهم

يميناً لنعم السيدان وجدتما     على كل حال من سحيل ومبرم

تدار كتما عبساً وذبيان بعدما   تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

وقد قلتما إن ندرك الأمر واسعاً  بمال ومعروف من الأمر نسلم

فأصبحتما منها على خير موطن  بعيدين فيها من عقوق ومأثم

عظيمين في عليا معد هديتما  ومن يستبح كنزاً من المجد يعظم

تعفى الكلوم بالمئين فأصبحت   ينجمها من ليس فيها بمجرم

ينجمها قوم لقوم غرامة   ولم يهرقوا بينهم ملئ محجم

ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة   وذبيان هل أقسمتم كل مقسم

فلا تكتمن الله ما في نفوسكم  ليخفى ومهما يكتم الله ينقم

المرتبة الثانية: الانتماء إلى المدينة الفاضلة العربية دون تحديد حاكم وإنما تحديد قانون عام.

شاهدنا في المرتبة الأولى هو العودة إلى ميثاق أو عهد أو حتى قانون للسلم وهذا يعتبر مكون جزئي واعتبار الملك هو المنقذ له فيه حين، ولكن ما نادى به لبيد بن ربيعة العامري نظام متكامل حدد فيه النظام والقانون بعموم في أكثر القضايا المهمة وكذلك حدد شرائط الحاكم فهو نظام يتفادى الأخطاء السابقة...

يقول لبيد الفيلسوف:

وكثيرة غرباؤها مجهولة                  ترجى نوافلها ويخشى ذامها

أنكرت باطلها وبؤت بحقها    عندي ولم يفخر علي كرامها

وجزور أيسار دعوت لحتفها   بمغالق متشابه أجسامها

أدعوا بهن لعاقر أو مطفل  بذلت لجيران الجميع لحامها

فالضيق والجار الجنيب كأنما  هبطا تباله مخضبا أهضامها

تأوي إلى الأطناب كل رذية  مثل البلية خالص أهدامها

ويكللون إذا الرياح تناوحت   خلجاً تمد شوارعاً أيتامها

إنا إذا التقت المجامع لم يزل   منا لزاز عظيمة جشامها

ومقسم يعطي العشيرة حقها   ومعذمر لحقوقها هضامها

فضلاً وذو كرم يعين على الندى   سمح كسوب رغائب غنامها

من معشر سنت لهم آباؤهم    ولكل قوم سنة وإمامها

 

لا يطبعون ولا يبور فعالهم     إذ لا يميل مع الهوى أحلامها

فاقنع بما قسم المليك فإنما   قسم الخلائق بيننا علامها

وإذا الأمانة قسمت في معشر   أوفى بأوفر حظنا قسامها

وهم السعاة إذا العشيرة أفظعت  وهم فوارسها وهم حكامها

وهم ربيع للمجاور منهم    والمرملاتُ إذا تطاول عامها

وهم العشيرة أن يبطئ حاسدُ  أو أن يميل مع الهوى أحلامها

وإذا لم تنطبق هذه الشروط في المدينة أو المكان الذي يريد أن ينتمي إليه فهذا فيلسوف الشعراء الجاهليين فإنه يهدد بالهجرة من هذا المكان قائلاً:

أو لم تكن تدري (نوار) بأنني             وصال عقد حبائل جذامها

تراك أمكنة إذا لم أرضها   أو يعتلق بعض النفوس حمامها( )

وقد تبينا في معرض الحديث عن امرئ القيس ورمزية المرأة في استخدامها عند شعراء الجاهليين فماذا يقصد لبيد (بنوار) إنها المدينة التي يسعى إليها وذكر شروط قانونها وشروط حكامها في معلقته التي يظلمها كثير من الباحثين على أنه أعلى كعباً بين جميع شعراء الجاهلية فكراً وآفاقاً يليه زهير وامرؤ القيس أسلوبياً فنياً ويضاهيه فكرياً ممكن بأسلوب رمزي خفيّ...

المرتبة الثالثة: الانتماء إلى كل الجنس العربي....

(العرب): صار هذا المصطلح يدل على جنس بعينه أو جماعة واحدة ذات نطاق من الوحدة الجامعة( ).

ويأخذ لفظ (العرب) دلالته في النفوس بين القبائل كلها على تعدد انتمائها واختلاف سكانها سواء تلك التي تنتمي إلى عدنان أو قحطان...

ومن ثم تبرز كلمة (العرب) مقابل كلمة (الروم) بعد أن ظهرت بإزاء كلمة (العجم)... ويتضح لنا ذلك من قول عمرو بن الأهتم التميمي العدناني في ملاحاة له مع قيس بن عاصم.

إن تبغضونا فإن الروم أصلكم            والروم لا تملك البغضاء للعرب

ويقول أيضاً عامر المحاربي:

همُ يطدون الأرض لولاهم أرتمت        بمن فوقها من ذي بيان وأعجما

فهذا البيت يحدونا إلى استجلاء المعنى المضمن في كلمة (ذي بيان) وكلمة (أعجماً) فعامر تتسع دلالة فخره بمجد قومه ليشمل العرب كافة وهذا ما عناه بقوله (ذي بيان) مما يؤكد أن صلته بالعرب قائمة على الحس الأصيل به دون أن يتلفظ بلفظ جامع لهذا المصطلح، فهو يشعر كغيره من الشعراء، فلفظ (ذي بيان) عنده بإزاء لفظ (أعجما) والأعجمي كل من عجز عن فهم لغة العرب أو لم ينطق بها...

ولهذا كله؛ فانتماؤه إلى ذوي البيان يتجلى بالحس دون أن يصرح به، هذا الحس الذي علا عند عنترة يوم تحدث عن ناقته التي رفضت أن تشرب ماء من غير المياه العربية...

فكيف لها أن تشرب من مياه الديلم، وهي التي اعتادت شرب الماء العذب فكيف تشرب من الدحرضين ؟ فأنا لها أن تنسى ذلك، كما يقول عنترة( ).

شربت بماء الدحرضين فأصبحت        زوراء تنفر عن حياض الديلم

فالانتماء حسّ متأصل في ناقة عنترة التي ترمز إلى صاحبها... وهو انتماء للعرب كلهم... ومفهوم العرب يظهر في أواخر العصر الجاهلي على بعض الألسنة دالاً على القبائل العربية، فهذا بدر بين معسكر الكناني "كان يستطيل على من ورد عكاظ فيمد رجله ويقول أنا أعز العرب"( ).

وبهذا كله ندرك أن لفظ العرب ربما دار على بعض الألسنة الجاهلية بدلالته على القبائل العربية؛ ولكن الإسلام هو الذي أعطاه دلالة البعد القومي لجنس بعينه.. أما في الشعر الجاهلي، فنحن نمر بما وصل إلينا منه "فلا نجد فيه صيغة من جذر (ع – ر - ب) للدلالة على معنى قومي يتعلق بالجنس ولا على معنى يتعلق باللغة التي نتكلمها. وهذا أمر له تعليله في تاريخنا السابق على الإسلام. لقد كان الجاهليون غارقين في منازعاتهم القبيلة، ليس لهم هم إلا تعميق ولائهم لقبائلهم الصغرى؛ على وجود حسهم بالجذور الكبرى.. وجاء الإسلام لينتشلهم من وهدة الصراع الضيق والقاتل، ولينبههم إلى ما كانوا يظنون أنه المثال الأرحب للانتماء... وليوضح لهم أن الانتماء الأرحب هو الانتماء الجامع، الذي يدل عليه مصطلح (العرب) ( ).

ومن نزعتهم القومية تجاه الفرس في يوم ذي قار يقول الأعشى:

هناك فدى لهم أبي                          غداة تواردوا العلما

بضربهم حبّيك البيـ   ض حتى سلموا الهجما( )

وقال أيضاً:

لو أن كل معد كان شاركتنا                في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف( )

وقال أيضاً:

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي            وراكبها يوم اللقاء وقلت

هم ضربوا بالحنو حنو قراقرِ     مقدمة (الهامرز) حتى تولت( )

 

* نقلا عن : المسيرة نت 


في الثلاثاء 07 فبراير-شباط 2023 08:39:46 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=7168