الانتماء والهوية لدى شعراء العرب قبل الإسلام"الأخيرة"
حسن المرتضى
حسن المرتضى

 

الفرع الثالث: الانسلاخ عن انتماء والالتحاق بانتماء مغاير:

تتدرج مراتب هذا الانسلاخ عن انتماء، والتحول إلى انتماء آخر فالمرتبة الأولى الفرار من الجنس البشري بأكمله والانتماء إلى الفلاة والحيوانات غير الأليفة فهي موطن في نظرهم خير من قساوة البشر..

ثم تأتي في مرتبة ثانية أقل تشاؤماً فترى أن هناك من البشر من يمكن التواطن معهم والانتماء إليهم وهم نفس النوعية من المخلوعين والصعاليك المطرودين من قبائلهم أو من ثاروا على الاعوجاج القائم في قبائلهم فهم خرجوا على قبائلهم ليتصلوا بأقوام اختلطت أنسابهم بعجمة قليلة ولكن لا يزال فيها عروبة كالعبيد من الصعاليك...

وأما الدرجة الثالثة فهم من انسلخوا عن العرب كله كجنس والاستعانة بجنس آخر كالروم لاستعادة الملك...

المرتبة الأولى: الانسلاخ عن الجنس البشري كاملاً والانتماء إلى الفلاة والحيوان يقول في ذلك الشاعر الشنفرى:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم

                       فإني إلى قوم سواكم لأميلُ

فقد حمت الحاجات والليل مقمر

وشدت لطيات مطايا وأرحلُ

وفي الأرض منأى للكريم عن الغنى

وفيها لمن خاف القلى متعزلُ

لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ

سرى راهباً أو راغباً وهو يعقلُ

ولي دونكم أهلون (سيد) (عملس)

وأرقط زهلول وعرفاء جيألُُ

هم الأهل لا مستودع السر ذائع

لديهم ولا الجاني بما جر يخذلُ( )

 

المرتبة الثانية: الهجرة المطلقة وعدم تحديد الانتماء الجديد وفي ذلك يقول الأفوه الأوديّ:

كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر

                       لهم من الرشد أغلال وأقيادُ

أعطوا غواتهم جهلاً مقادتهم

فكلهم في جبال الغيّ منقادُ

حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا

فيهم صلاح لمرتاد وإرشادُ

فسوف أجعل بعد الأرض دونكم

وإن دنت رحم منكم وميلادُ( )

 

المرتبة الثالثة: تحديد الانتماء بالشبيه (المخلوعون ـ الصعاليك) وفي ذلك يقول عروة بن الورد:

وسائلة أين الرحيل وسائلِ

                       ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه( )

ويقول بشير بن عمر بن براقة:

وسائلة أين الرحيل وسائلِ

                       وليلك عن ليل الصعاليك نائم

وكيف ينام الليل من جُلّ ماله

حسام كلون الملح أبيض صارمُ

آلم تعلمي أن الصعاليك نومهم

قليل إذا نام الخلي المسالم( )

يقول السُليك بن السلكة:

فلا تصلي بصعلوك نؤوم

                       إذا أمسى يعدُ من العيالِ

إذا أضحى تفقد منكبيه

وأبصر لحمه خوف الهزالِ

ولكن كل صعلوك ضروب

بنصل السيف هامات الرجالِ( )

ويقول عروة بن الورد:

دعيني للغنى أسعى فإني

                       رأيت الناس شرهم الفقيرُ

وأبعدهم وأهونهم عليهم

وإن أمسى له حسب وفيرُ

ويقصيه الندي وتزدريه

حليلته وينهره الصغيرُ

ويلغى ذو الغنى وله جلال

يكاد فؤاد صاحبه يطيرُ

قليل ذنبه والذنب جم

ولكن للغنى رب غفور( )

 

ويقول الشنفري:

ألا ليت شعري والتلهف ظلة

                       بما ضربت كف الفتاة هجينها

ولو علمت قعسوس أنساب والدي

ووالدتي ظلت تقاصر دونها

أنا ابن خيار الحجر بيتاً ومنصباً

وأمي ابنة الأخيار لو تعرفينها( )

ويقول السليك بن السلكة:

أشاب الرأس أني كل يوم

                       أرى لي خالة وسط الرحالِ

يشق علي أن يلقين ضيماً

ويعجز عن تخلصهن مالي

 

المرتبة الثالثة: الانسلاخ عن الجنس العربي إلى جنس آخر

وهو إما الانتماء إلى الروم أو الفرس أو الأحباش: وهو ما يقرب منه قول امرؤ القيس في الاستعانة بالروم في إعادة ملكه قاصداً نفسه:

عليها فتى لم تحمل الأرض مثله

                       أبر بميثاق وأوفى وأصبرا

هو المنزل الألاف من جو ناعط

بني أسد حزناً من الأرض أو عرا

ولو شاء كان الغزو من أرض حمير

ولكنه عمداً إلى (الروم) أنفرا

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنا لاحقان به (بقيصرا)

فقلت له لا تبك عيناك إنما

نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

وإني زعيم إن رجعت مملكاً

بسير ترى منه الفرانص أزورا

وما هو السبب الذي دفعه إلى ذلك.. يقول...

لقد أنكرتني بعلبك وأهلها

                       ولابن جريج في قرى حمص أنكرا

كذلك جدي ما أصاحب صاحباً

من الناس إلا خانني وتغيرا

وكنا أناساً قبل غزوة قرملِ

ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا

خاتمة:

النتائــج:

- الانتماء فكرة واسعة عند كل شعوب الأرض فمنهم من ينتمي إلى الأرض ومنهم من ينتمي إلى أسرة أو قبيلة أو جنس، ومنهم من ينتمي إلى إله يعبده أو إلى ديانة، ومنهم من ينتمي إلى ملك ومنهم من ينتمي إلى قانون.

والعرب كذلك يسري عليهم هذا التنوع الانتمائي كما يسري عليهم عدم الانتماء أو الانسلاخ عن انتماء والتحول أو الانتقال إلى تحت وصاية انتماء آخر شأن باقي شعوب الأرض.

- ولكن الجدير بالذكر في أن العرب تميزوا في توظيف لغة الانتماء الشعري بالرموز فهم يستعملون المرأة على معاني الانتماء السابق إما الوطن أو القانون أو القبيلة أو .... وكذلك يستعملون الحيوانات تعبيراً عن الانتماء فقد يتكلم على لسان حيوان شعر سواءً أكان ناقة أو ثوراً أو ... ويقصدون به التعبير به إما عن ذات فردية أو عن قبيلة، وطبيعة الانتماء فيها، أو ما يهدد انتماءها، وكذلك يستعملون معنى الصداقة بمعانيه الواسعة التي تعني الوطن، أحد معانيها بمعنى الانتماء.

- إن البعد القومي لكلمة العرب بمعنى الجنس لم يتضح على الشكل الحالي إلا بعد الإسلام فالقرآن هو الذي أعطاه هذا البعد القومي إذ كان يستعمل المصطلح (عرب) بمعنى فئة أو طائفة داخل العرب دون قصد لعموم الجنس العربي..

التوصيات:

أتمنى على الباحثين أن يكثفوا التركيز الدرسي على الرمز الانتمائي عند شعراء الجاهلية وتوظيفهم لها فلا تخلو معلقة أو قصيدة تعتبر في مصاف المعلقات إلا ويتم فيها توظيف الرمز الأنثوي والرمز الحيواني وهو في كل قصيدة يوحي بمعاني الحالة الانتمائية أو افتقادها بالإضافة إلى أن يركّز الباحثون على مطلع القصيدة من حيث كونها طللية أو خمرية أو.... ودلالتها، بالإضافة إلى التداخل مع الرمز الأنثوي والرمز الحيواني...

المراجع:

1-        شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها، للشيخ أحمد الأمين الشنقيطي، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، لم يذكر سنة الطبع.

2-        ظاهرة الانتماء في القصيدة الجاهلية، د/ حسين جمعة – مجلة التراث العربي – العدد 44.

3-        ظاهرة الانتماء والانعتاق في القصيدة الجاهلية، د/ حسين جمعة – مجلة التراث العربي العدد 32.

4-        العمدة – لابن رشيق القيرواني.

5-        الانتماء وظاهرة القيم العربية في القصيدة الجاهلية، د/ حسين جمعة.

6-        ديوان دريد بن الصمة.

7-        المفضليات – المفضل الضبي، شرح ابي محمد القاسم بن محمد الأنباري، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت، 1920.

8-        معجم ما استعجم – للبكري – طبعة السقا.

9-        الحيوان – للجاحظ.

10-      الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، طبعة دار الكتب، وعن دار الثقافة تحقيق عبد الستار أحمد فرج، بيروت، 1972.

11-      مفهوم المواطنة – لسعود موسى الربضي – مجلة العلوم السياسية العدد..

12-      تاريخ الجاهلية – د/ عمر فروج، دار المعلم للملايين، بيروت، 1984.

13-      الكامل في التاريخ – لابن الأثير.

14-      ديوان شعر أيام العرب، د/ عفيف عبد الرحمن، دار صادر، ط1.

15-      شعر الشنقيري الأزدي لأبي فيد مؤرج بن عمر السدوسي، دار اليمامة للبحث والطباعة، 1419هـ.

16-      الطرائف الأدبية، لعبد العزيز الميتمي، القيم الأول ديوان الأفوه الأودي، دار الكتب العلمية، بيروت.

17-      ديوان عروة بن الورد، شرح بن السكيت، أشرف على طبعة عبد المعين الملوحي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي.

18-      السليك بن السلكة، أخباره وشعره، دراسة وجمع وتعتيق جمعية أدم وكامل سعيد، مطبعة العاني، بغداد، 1984.

19-      جمهرة أشعار العرب، تحقيق علي محمد البجاوي، دار النهضة، مصر، ط1، 1967م.

 

* نقلا عن : المسيرة نت 


في الأربعاء 08 فبراير-شباط 2023 08:03:28 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=7176