|
لكل شيءٍ نريد أن يتحقق على أرض الواقع مقدماتٌ يجب الانطلاق منها، وأساليب يجب التزامها، ومسلمات وأسس تحتم علينا الأخذ بها، ونحن اليوم مطالبون أكثر من ذي قبل: بتحقيق التماسك الاجتماعي، الذي به يسود الأمن، ويتعزز التعاون الذي يصل بالمجتمع كافة إلى قمة الكمال والقوة والنضج على كل الأصعدة، وفي كل المجالات، وبالتالي يتمكن المجتمع من امتلاك كل الوسائل التي تعينه على حماية وجوده من القوى الخارجية، بعد أن تمكن من معرفة المقومات التي يتطلبها بناء ذاته في الداخل، وأحسن الاستفادة منها بأجمعها، بحيث لم يغفل عن بعضها، ولم يقصر في العمل على تفعيلها كنظام عام، تتبارى في ميدان الاستزادة منه الأنشطة السياسية، والأعمال الفكرية، والتوجهات التربوية، والجهات الخدمية، وذاك لعمري ما لا يكفي لبلوغه إطلاق الشعارات الرنانة، وتدبيج الكلمات الحماسية، ونظم القصائد العصماء، وعقد الندوات النقاشية، وإطلاق البرامج التي تتتبع حركة الجهات والهيئات الخدمية والإنسانية، فترينا قليل ما قامت به تلك الجهات والهيئات كثيراً، وصغير ما تم لها إنجازه كبيراً وعظيماً، الأمر الذي جعلها تصرف جل اهتمامها باتجاه صياغة الصورة المثالية لدى الناس، وذلك عبر وسائل الإعلام، التي تشعرك من خلال لقاءاتها بالقائمين على هذه الجهات، ورصدها المستمر لأنشطتها وفعالياتها، أننا: قد استطعنا القضاء على شبح الفقر، وتخلصنا من آفة البطالة، وبلغنا الذروة في مسألة تحقيق الاكتفاء الذاتي، في ما يتعلق بقوتنا الضروري، ولو أن الإعلام يضع تلك الإنجازات بحجمها الطبيعي، حاثاً على السير بجدية نحو تحقيق ما هو أعظم منها، والإتيان بما يتطلع إليه الأحرار في نظرتهم البعيدة، ويناجونه في أحلامهم الواسعة في طريق جهادهم وصبرهم، لما وجدنا تلك الجهات واقفة على ما تحقق لها من نجاحات، مكتفيةً بحسن السمعة التي حظيت بها، مطمئنة إلى رصيدها العملي السابق، فتبدأ بالانحدار نحو الجمود والقصور، ملبسةً رؤساءها ومدراءها ثوب الغرور والتعالي والعنجهية، وطابعةً معظم العاملين فيها بطابع التسيب والتساهل في أدائهم العملي، إلى جانب اللامبالاة بالناس الذين يقصدون تلك الجهات، طلباً لحق في خدمة، أو نيلاً لمعونة مالية أو سواها لتجاوز محنة، أو الخروج من ضائقة ما.
أما الفاجعة الأدهى، والمرارة الأشد وجعاً وإيلاماً على النفس فهي: الواسطة والمحسوبية، التي تمتد من نفق الماضي المظلم، لتلقي بظلالها على الحاضر المجيد، فتطبعه بطابع الظلمة، وتعطي الفئات المستهدفة من الجماهير جرعةً كافيةً من اليأس، ليستقر بعدها في الذهنية العامة: أنْ ليس بالإمكان أفضل مما كان، إذ لايزال المعيار الذي يحدد لمعظم الجهات استحقاق فلان للخدمة دون سواه، أو نيله للدرجة الوظيفية دون سائر المتقدمين لها، أو حصوله على نوع من المساعدة والدعم المادي، من بين بقية المطالبين بذلك ممن يعيشون معه نفس المعاناة، ويمرون بذات الظروف، ويفتقرون لنفس الشيء الذي أصابه وحده، وأخطأهم جميعاً هو: مقدار ما لدى ذلك الفرد من صلات وروابط وصداقات ومعرفة سابقة بأحد الشخصيات الهامة هنالك، أو بعض العاملين، وما دون ذلك فلن تلقى سوى التعنت والتجاهل والانصراف عنك إلى سواك، وسد جميع الأبواب في وجهك، مع التعامل القاسي معك، واتباع كل الطرق والأساليب التي تشعر خلالها أنك أمام مشهد يريك صورة مصغرة من خزنة جهنم هنا في الدنيا، لتحسب حساب يوم القيامة من الآن، وقبل فوات الأوان.
أما السبيل للخلاص من هذه الظاهرة المدمرة، فلن يكون بسن القوانين، ولا بتفعيل الأجهزة الرقابية، ولا بفتح المزيد من قنوات الشكاوى والبلاغات، وأبواب التظلمات، وإنما يكمن: في التوجه الجاد لتربية العاملين وجدانياً ونفسياً على حمل هذا المشروع الإيماني، والتزام منهجه القرآني في توجههم العملي، لتكون النتيجة المترتبة على ذلك، هي: الانطلاق من القاعدة الجامعة لكل معاني ومقتضيات وأركان ومقومات الإيمان، والتي تضبط النظرة، وتحدد السلوك، وتنظم الحركة لدى العاملين، الذين سيكون ميزان تعاملهم مع الناس قائماً على الرحمة، كصفة أساسية للمجتمع الرسالي، وكعنوان من العناوين التي تحدد العلاقات، والمهام والواجبات ليتولد عنها الشعور بوحدة الجسد، المؤمن، دافعاً الجميع باتجاه الاهتمام بسائر الأعضاء التي قام عليها كيانهم ذاك.
* نقلا عن : لا ميديا
في الأحد 26 فبراير-شباط 2023 06:23:58 م