|
أدعياء سعة الأفق في التفكير، وعمق النظرة في معرفة الواقع، والقدرة على اللقاء مع المختلف مذهبياً وفكرياً عند القواسم المشتركة، والمعاني الجامعة، التي توحد ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وتقوي ولا تضعف، وتغني الساحة بكل ما تحتاجه من أفكار ومشاريع، وشخصيات ومواهب تنهض بكل شأن من شؤون الحياة: كثر، ولا سبيل لحصرهم، أو تخمين عددهم، ولكن سرعان ما تختفي هذه الكثرة عندما تصطدم بوجود فئة من فئات المجتمع، أو مجموعة صغيرة، يجمعها مشروع فكري أو فني أو إعلامي، اتجهت في لحظةٍ ما لتقول ما لديها، وتعبر عما تؤمن به، وتعتز بثقافتها وفكرها، وتشيد برموزها ومقدساتها، إذ سيصبح معظم أولئك الأدعياء بين ليلة وضحاها أكثر انغلاقاً من طالبان، وأشد بذاءةً وفحشاً في القول، وأعظم تجبراً وحقداً وإجراماً من الوهابية، ولو كان الأمر كله بأيديهم لنصبوا المشانق، وعقدوا محاكم التفتيش، وأشهروا سكاكين وأحزمة وعبوات الموت الداعشية القاعدية في وجه كل مَن يختلف معهم بقليل أو كثير، لأنهم مسكونون بوهم امتلاك الحقيقة، دون بقية الخلق، ينظرون إلى سواهم نظرة استحقار وانتقاص، لكون سواهم أهل باطل، وأتباع خرافات، أما هم فلا أحد أفضل منهم على مستوى العقيدة والالتزام تحت أديم السماء.
نعم، إنها روح التكفيريين من الدواعش الوهابية القاعدية، لكنها قد تتحرك في أكثر من جسد خارج نطاق الدائرة التي صنعتها، فقد تراها من خلال شخصيات لا تلبس الثياب القصيرة، ولا تطيل شعر اللحية حتى السرة، ولا تؤذن بالصلاة خير من النوم، ولم تترب على فتاوى ابن تيمية، ولم تعتقد بما جاء في كتاب توحيد ابن عبدالوهاب، لأن القضية ليست قضية اختلاف في المنهج والعقيدة، بل قضية اتفاق في المشاعر والأحاسيس والسلوك التي تبني معاً النزعة العدائية تجاه كل مَن يُخالفني في النظرة والأسلوب والطقوس العبادية والمعتقدات الفرعية، ويتفق معي في الثوابت والأصول، وتبني الموقف الواحد في قضايا الصراع.
أما الشيء المضحك المبكي في الوقت ذاته هو عندما يأتي مَن يقول لك: قبل أن تطلق فكرتك الخاصة، أو موهبتك الفنية، أو أعمالك عليك أن تحسن تقدير البيئة التي أنت منها، وتحسب حساب ما يعتقده السواد الأعظم فيها، أو بمعنى أدق تحسب حساب الفئة الممسكة بمقاليد الحكم والثقافة والإعلام، فلا تأتي إلا بما يتفق وفكرها وذائقتها ومعتقداتها، وهذا دونما شك سيحولك: من عبد لله إلى عبد للبيئة والتوجه السياسي، والرأي العام.
ثم يذهب هذا النوع من أدعياء الحكمة إلى ما هو أبعد من ذلك، حينما يوجه إلى التزام أسلوب الحكمة من وجهة نظره، وهو عدم الانجرار لمواجهة المخالف لنا في وسائل التواصل، فذلك قد يجرح مشاعر إخوتنا في الموقف والمصير ومعظم أصول العقيدة، ولكن بالإمكان كما يقول اعتماد طرق وأساليب أخرى لا تثير ضوضاء، ولا يحس بحركتها أحد! وإني لأقولها جازماً إن الطرق والأساليب التي عدها هؤلاء من الحكمة، ما هي إلا تلك الأساليب والطرق الشيطانية، التي تقوم على المقاطعة والمضايقات، والفصل من الوظيفة، والحرمان من الحقوق، حتى يخضع المختلف لرغبتنا، ويستسلم لإرادتنا، هذه هي الحكمة بحلتها الجديدة، وقد تم تطبيقها على أكثر من شخص، وفي أكثر من جهة أو حقل للأسف الشديد.
* نقلا عن : لا ميديا
في الأحد 05 مارس - آذار 2023 08:37:03 م