|
مُذ كُنتُ صغيراً وأنا أقرأ وأسمع الجميعَ يصفُ الحديدة بأنها عروسُ البحر الأحمر، وظل رسمُها في مخيلتي على أنها فتاةٌ جميلةٌ فارعةُ الطول ترتدي جلبابَها الأسودَ اللامعَ الطويل، وحجابَها الوردي المصنوع من الشمواه، وهي تتمشى حافيةَ القدمين على الشاطئ، تلعبُ بمياه البحر المتدفق وتلهو فوق الرمال، وقبل الغروب تغوص غير بعيدٍ باتّجاه البحر، فيتقاطر الماء على وجهها الضاحك وثغرها المبتسم كأنها حبات من اللؤلؤ، تقسم الموج بذراعيها نصفين لتحيل الأزرق الممزوج بلون عينيها لتأوي إليهما الشمس كُـلّ مساء.
نعم.. إنها الحديدة إحدى المحافظات اليمنية الساحرة، بجمال مناظرها وروعة طبيعتها، وطيبة أهلها ودماثة أخلاقهم، وصفاء ونفاء قلوبهم، إذ لا يمكنك وأنت تتجول فيها إلا أن تلمس كيف أن أهلها على قدرٍ عالٍ من البساطة والصبر، ومن البشاشة والتواضع، ويغمرك الحياء لفرط شهامتهم وكرمهم ونخوتهم، وعطائهم وجودهم بالموجود رغم شحت ما في أيديهم.
في الحديدة.. ثمة تساؤلاتٍ لا تستطيع الإجَابَة عنها وأشياء لا يمكنُك أن تفسرها، حتى وإن اجتهدت في الغوص في تفاصيلها، إلا أنك تعجز عن وصفها ببضع كلمات، فكُلُّ شيء فيها يغمرك بهالةٍ من الارتياح والسكينة، ويشعرك بالهدوء والطمأنينة، ويشدك للتأمل واستحضار الأحاسيس المدفونة بداخلك، وكأنك كنت يوماً جزء من هذا المكان، إذ لا تشعر أبداً أنك غريبٌ عنه.
قبل عشرين عاماً تشرفت بزيارة الحديدة فوجدتها كذلك، عروس البحر الأحمر، غير أن من كان يسمِّيها بهذا الاسم لم يقدم يوماً لأهلها أي شيءٍ يُذكر، سوى الفتات مما يجني هو من خيراتها؛ لأَنَّه مشغول بمشاريعه ومنجزاته الخَاصَّة فيها، بعد أن استحوذ على أرضها وقام بتشييد الفلل الفارهة والعمارات الشاهقة، والمصانع والمؤسّسات العملاقة، والمزارع الضخمة التي تبلغ مساحة أصغرها؛ مساحة دولة مستقلة، بل وظل يُمن على بعض أهلها أن جعلهم عُمَّالاً وخدماً فيها.
في الحديدة، كانت الأنظمة السابقة شديدة الحرص على تعيين المسؤولين فيها من أكبر مسؤول في سلّم الهرم القيادي حتى آخرهم في ذات التسلسل الهرمي، وذلك من شخصياتٍ نمطية معينة تعمل وفق اتّجاهات محدّدة وبرامج وسياسات غامضة، يغلب عليها الطابع العصبوي أكثر من كونها تمثلُ الصورةَ الطبيعيةَ للنظام والدولة، بل أحياناً كان يكافَأُ مَن فاحت روائحُه النتنة ويظهرُ عليه الفسادُ في مؤسّسةٍ ما في صنعاء ليتم تعيينُه في الحديدة حتى وإن كان في غيرِ مجاله.
في ذلك، يستحضرني ما أوردهُ “الشيخ المرحوم سنان أبو لحوم”، في إحدى المقابلات التلفزيونية، والذي ظل محافظاً للحديدة أكثرَ من عشرين عاماً؛ إذ قال حرفياً: “لقد ظللت هذه المدة الكبيرة فيها، وعندما عزمتُ على أن أصنع شيئاً ملموساً يخدُمُ أبناءَ الحديدة جاء قرارُ عزلي، فتواصلتُ مع الولد “علي” –يقصد علي عبدالله صالح– وكلمّته: ما سويت حتى تقيلونا يا فندم؟.. هل أزعجكم أني توجّـهت لخدمة أبناء الحديدة بعد هذه المدة الطويلة في خدمتكم؟.. فقال صالح: قد كبرتوا يا شيخ، وما نشتي لكم إلا الراحة، وخلّي غيرك من يقوم بالواجب.. فقلت له: بس غيري عاده با يجلس عشرين سنة لوما يصلّح شيء للأهالي.. !، فضحك الرئيس”، وكأنهُ يقول: “هو كذلك”.
في 2010م، كانت زيارتي الثانية للحديدة التي لم يتغير شيء في طبيعة الأرض وجمالها وطيبة السكان وصبرهم وانتزاعهم للابتسامة والأمل من مخالب البؤس والمستحيل، ولاحظت أن المعاناة من الحر الشديد ما زالت قائمة، وكذا الفواتير الباهظة والانقطاعات المتكرّرة للكهرباء، رغم وجود محطة كهرباء “الكثيب” التي كانت تغذي أجزاء واسعة من محافظات الجمهورية، إلى جانب غليان السوق والارتفاع غير المبرّر للأسعار؛ كون الميناء الذي تأتي منه البضائع لا تفصلُه بالمحالِّ التجارية سوى بضعة أمتار.
في الثلاثاء 07 مارس - آذار 2023 06:22:11 م