|
تبدو الولايات المتحدة في حالة احتضار وتخبط فاقدة القدرة على لملمة نفوذها وعاجزة على ضبط إيقاعات الخارطة الكونية وفق رغبتها وبما يتسق مع ديمومة هيمنتها وسيطرتها على العالم باعتبارها القوى الأعظم..
كثيرة هي الشواهد الدالة على بدء العد العكسي لأفول إمبراطورية الشر ومصنع الاستبداد الكوني ومركز الهيمنة التي دفعت شعوب العالم كثيرا من قدراتها ومن أمنها واستقرارها وتنميتها ومن دماء أبنائها، في سبيل إبقاء تسلطها واستمرار نهبها للاقتصاديات العالمية..
أمريكا اليوم عكس أمريكا التي كانت قبل عقدين والعالم اليوم غير العالم الذي كان قبل عقدين أيضا والخارطة الجيوسياسية تعيد تشكيل أطيافها وتعيد رسم أدوار اللاعبين عليها، فيما) سيدة القهر) ومركز الاستبداد والهيمنة تتجه بكل مقوماتها نحو زاوية الانكسار مثقلة بالديون وملطخة بدماء الشعوب، ومجبولة بأزمة وجودية مركبة، أزمة تطال هوية أمريكا داخليا ودورها خارجيا، الأمر الذي انعكس سلبا ليس على أدائها بل وعلى خطابها السياسي الذي يبدو ملبدا بغيوم الفشل وفاقد القدرة في الحفاظ على مصداقيته واحترام العالم له، بل فقدت الإدارة الأمريكية ثقة المواطن الأمريكي ناهيكم عن فقدانها المتدرج بثقة أبرز وأهم حلفائها، وهو ما انعكس سلباً على علاقتها حتى بالكيان (الصهيوني) الذي أخذ بدوره يعيش حالة اضطراب بحثاً عن منافذ آمنة تمنحه مزيدا من العمر والوقت من أجل البقاء..
بعيداً عن جدلية الحب والحقد، وبعيداً عن رؤيتنا وقناعتنا بأمريكا الدولة العظمى فإن أمريكا تعيش أسوأ مراحلها الحضارية، بعد أن فقدت مكانتها الدولية رغم كل ما يقال عنها وعن قوتها وقدراتها، غير أن واقع الحال يؤكد وتؤكد كل مؤشراته بأن أمريكا تفقد مكانتها الدولية وتفقد ثقة مواطنيها وحلفائها ناهيكم عن خصومها ومنافسيها.
بيد أن الإطلالة (الصينية) على منطقة (الشرق الأوسط) كما يحلو لأمريكا تسميتها بدلا عن -الوطن العربي -هذه الإطلالة إذا ما قسناها بردة الفعل الأمريكي، فإن رد الفعل هذا يعكس ويجسد حقيقة التراجع والانكسار الأمريكيين، إذ وبعد نجاح (الصين) في إحداث انفراج بين (طهران، والرياض) وهما الرافعتان الأكبر والأكثر حضورا في تداعيات المنطقة، وكان التباعد بينهما والحيلولة دون التقائهما هو رهان (صهيوني) رعته وشجعته أمريكا، في سبيل تكريس فكرة (فوبيا إيران) بهدف إحلال (إيران) كعدو للعرب بديلاً عن العدو الحقيقي، غير أن هذا المخطط تداعى وانكسرت مجاديفه وارتطم قاربه على صخور الحقيقة، التي تقول إن استقرار وأمن المنطقة هو بتفاهم دوله العربية والإسلامية وأن الكيان الاستيطاني هو عدو المنطقة وهو مصدر الخطر وعدم الاستقرار لكل دول وشعوب المنطقة بصورة فردية وجماعية، اعتماداً على ايدلوجية الكيان ورعاته وهي الايدلوجية القائمة على قاعدة أن الكيان لن يكتب له الديمومة والخلود أن عاش في كنف محيط آمن ومستقر ومتقدم، واعتمدت أمريكا استراتيجية زعزعة استقرار دول المنطقة وإضعافها بكل الوسائل والسبل لا فرق عندها بين من هم حلفاؤها ومن هم خصومها، المهم أن يكون الجميع في حالة اشتباك وتخلف في سبيل إبقاء الكيان الاستيطاني مستقر ومتقدم ومتفوق على كل دول المنطقة لكي تكون له دوما اليد الطولى على المنطقة والهيمنة المطلقة له عليها.
وهذا ما دفع واشنطن في لحظة كانت فيه وفود) الرياض) يتجهون إلى طهران وصنعاء مبشرة بحالة من الانفراج السياسي بين دول وأنظمة المنطقة التي أدركت أن أمنها واستقرارها مرهون بتفاهماتها وليس بيد أمريكا، تزامن هذا التحرك مع تسارع وتيرة التقارب بين) دمشق) ودول المنطقة وخاصة بين دمشق وتلك العواصم التي لعبت دورا في الأزمة السورية، ليأتي تراجعها عن مواقفها السابقة تجاه دمشق بمثابة إخفاق مضاعف للسياسة الأمريكية، فيما الأزمة الأوكرانية أخذت كل تركيز واشنطن وهي الأزمة التي ستكون الأخيرة في قاموس أمريكا، وبما إن الرهان الأمريكي على أوكرانيا يعد رهاناً خاسراً اتضحت مؤشرات خسارته بعد عام من انطلاق الأزمة وهو ما أدركه الكثيرون من الخبراء الأمريكيين الذين لا يوافقون إدارة (بايدن) على مواقفها غير أن عدم موافقتهم لا تمنحهم القدرة على إيقاف هذا النهج المتخبط، فبدأ (بايدن) وكأنه ربان سفينة تائه في محيط متلاطم الأمواج وعاجز عن تحديد بوصلة التوجه أو التنبؤ بمرسى آمن يصل من خلاله إلى بر الأمان، لذا لم تجد إدارة بايدن سو إرسال (غواصة نووية للمنطقة بذريعة حماية حلفائها من هجوم إيراني وشيك(…
نعم (الغواصة) جاءت للمنطقة ولكن لحماية الكيان وحسب والمستهدف ليس إيران بل روسيا والصين، تزامن هذا مع أزمة وجودية للكيان ومع نمو واتساع رقعة النفوذ الصيني الذي سعت أمريكا لإقلاقه في جزيرة تايوان..!
إدراك واشنطن لخسارة رهانها في أوكرانيا وصمود وثبات روسيا رغم العقوبات المهولة وغيرالمسبوقة عليها وبدء تراجع الحماس الأوربي لمخططات واشنطن وفق تعبيرات الرئيس الفرنسي بعد عودته من زيارته للصين حيث أعلن صراحة عدم استعداد أوروبا للانسياق خلف واشنطن والخوض في نزاعات عالمية لا علاقة لأوروبا بها ويقصد رغبة أمريكا في الزج بأوروبا في أزمة تايوان مع الصين بعد أزمة أوكرانيا مع روسيا والتي كلفت أوروبا الكثير، كل هذا تزامن مع فشل أمريكا في الشرق الأوسط وهي التي غادرت أفغانستان هاربة بعد عقدين من احتلالها بذريعة محاربة (طالبان) وأخفقت في تحقيق أهدافها في العراق وفي سوريا ناهيكم عن فشلها في رعاية سلام دائم في المنطقة وظهرت بوضوح أنها مصدر للأزمات وصناعة الصراعات وليست مؤهلة مطلقا لتكون صانعة سلام أو وسيط نزيه في تحقيق السلام في منطقة من العالم، بل أدرك العالم أن أمريكا هي مصدر للصراعات وحيث تحل يحل الخراب لذا اتجه الجميع نحو الشرق حيث القوة الصاعدة بما في ذلك أوروبا وكل هذه المؤشرات تؤكد أفول الإمبراطورية التي زعمت أنها رعاية الحرية والديمقراطية ولكن في الواقع أثبتت أنها إمبراطورية الخراب والدمار وصانعة الحروب والتمزق إلى أصاب المجتمعات بسبب سياستها العدوانية.
بيد أن التسريبات التي أعلن عنها البنتاجون الأمريكي مؤخرا لوثائق خطيرة أظهرت مخططات أمريكا وتجسسها على حلفائها في أوكرانيا وكوريا الجنوبية وألمانيا والكيان الصهيوني، وحسب ما تناقلته وسائل إعلام أمريكية فإن هذه الوثائق خطيرة وتسريبها من داخل خزائن البنتاجون الأمريكي فعل له ما بعده من دلائل تعبر عن حالة انقسام داخل الإدارة الأمريكية وعدم توافق فيما بينهم وليس أدل على هذا من عملية تسريب هذه الوثائق الحافلة بالخطورة..
خلاصة القول إن واشنطن لم تعد تملك غير استعراض قوتها وأساطيلها دون أن تكون قادرة على استعمال هذه القوة فقط تستعملها للاستعراض الإعلامي والميداني وحسب..!
لقد حلمت بتطويق الصين وروسيا من أفغانستان، وتطلعت لإسقاط سوريا من العراق، وأملت في احتواء إيران بالسعودية ودول الخليج، ومن ليبيا والمغرب حاولت احتواء الجزائر، وسعت لضرب وتمزيق اليمن وزعزعة استقرار دول القرن الأفريقي، وكل هذا من أجل ترسيخ مكانة الكيان وإسقاط حقوق الشعب العربي في فلسطين وفق ما أطلق عليه صفقة القرن وقد أسقطت كل هذه الخيارات وبالتالي لم يعد إمام أمريكا غير التسليم بهزيمتها والتراجع عن عرش الهيمنة والتفرغ لحل قضاياها الداخلية حتى لا تجد نفسها أمام خيارات اجتماعية مؤلمة مع تزايد الحديث عن رغبات بعض ولاياتها في الانفصال عن الدولة الاتحادية وهذا ما سترسو عليه أمريكا في النهاية.
في الإثنين 01 مايو 2023 12:31:01 ص