|
في ظل أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان فشلت حتى الآن 12 جلسة عقدها البرلمان لانتخاب رئيس للجمهورية، جراء الانقسام الداخلي والخارجي حول تسمية رئيس للبلاد، وعلى الرغم من اصطفاف التيار الوطني الحر إلى جانب القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية وبعض التغييريين المدعومين من واشنطن لترشيح الوزير السابق جهاد أزعور في جلسة الأربعاء المنصرم، ضد مرشح حزب الله وحركة أمل والتكتلات الوطنية القومية سليمان فرنجية، إلا أن الأصوات لم تكن كافية لوصول أي من المرشحين إلى كرسي الرئاسة، حيث حصل جهاد أزعور على 59 صوتاً، وسليمان فرنجية 51 صوتاً، ولم تعقد دورة ثانية نتيجة مغادرة أغلب النواب قاعة البرلمان قبل انتهاء فرز الأصوات في الدورة الأولى.
من يتابع أزمة الرئاسة في لبنان يستغرب هذه الأزمة والعوائق التي أفشلت 12 جلسة عقدها البرلمان ولم تحسم هذه الأزمة، كيف اجتمعوا وكيف انتخبوا وما طلع رئيس؟ لفهم عمق هذه المشكلة لا بد من العودة إلى المادة 49 من الدستور اللبناني التي حددت آلية اختيار رئيس الجمهورية، على النحو التالي: تبدأ العملية الانتخابية بدعوة رئيس مجلس النواب إلى انتخاب الرئيس، ثم ينعقد المجلس النيابي بنصاب الثلثين على الأقل، أي 86 نائباً أو أكثر، من إجمالي عدد أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 128 برلمانياً.
وبعد ذلك يفتتح رئيس المجلس الجلسة ويطلب الاقتراع فوراً، فيدور الصندوق على النواب الحاضرين، حيث يحق للنائب أن يصوت لأي لبناني آخر، أياً كانت طائفته وحتى لو لم يكن معلناً ترشيحه لأن الدستور لا يفرض الترشح ولا يحدد طائفة الرئيس، لكن العرف في لبنان يقضي بأن يكون الرئيس مسيحياً مارونياً.
ثم تبدأ عملية فرز الأصوات ويفوز في دورة الاقتراع الأولى من يحظى بثلثي الأصوات وما فوق أي 86 صوتاً أو أكثر، وفي حال عدم فوز أحد يدور الصندوق دورة ثانية ويفوز من يحظى بالأكثرية المطلقة، أي ما يعادل 65 صوتاً أو أكثر، وهكذا تستمر عمليات الاقتراع حتى اختيار الرئيس بـ65 صوتاً.
في جميع الجلسات التي انعقدت لانتخاب رئيس للجمهورية لم يحصل أحد المرشحين على أكثرية الثلثين وهو ما يتعارض مع الدستور الذي حدد النصاب للفوز 86 صوتاً وأكثر في الدورة الأولى، وهذا ما يطلق عليه اللبنانيون مصطلح "طار النصاب" ولم تنعقد جولة ثانية نتيجة مغادرة أعضاء مجلس النواب للبرلمان لإعاقة عقد دورة ثانية تتطلب توافر النصاب في الحضور، ويحتاج فيها المرشح الفائز لعدد 65 صوتاً، كما يعمد بعض النواب إلى تحويل جلسة انتخاب الرئيس إلى فلكلور للسخرية وتسمية أشخاص غير موجودين في قائمة المرشحين مثل بعض أسماء الفنانات والراقصات والشخصيات الهزلية، لأن الدستور أصلاً يسمح لهم بتسمية أي شخص لبناني للرئاسة حتى إذا لم يكن مرشحاً.
إلى جانب كل هذه التعقيدات في آلية انتخاب رئيس الجمهورية، ثمة حقيقة ثابتة في لبنان أن قرار اختيار الرئيس ليس داخلياً وفي كل مرة يلعب القرار الخارجي دوراً حاسماً في هذه المسألة، لأن كل القوى السياسية لديها توازنات إقليمية ودولية، ونستذكر هنا الرئيس فؤاد شهاب الذي وصل إلى الرئاسة في العام 1958 بتوافق بين الرئيس المصري جمال عبدالناصر والإدارة الأمريكية، والرئيس إلياس سركيس انتخب في العام 1976 بتوافق بين سوريا والإدارة الأمريكية، ومثله الرئيس إلياس هراوي الذي انتخب لذات التوافق في العام 1989، وكذلك الرئيس ميشال سليمان الذي انتخب في العام 2008 بتوافق فرنسي سعودي سوري أمريكي إيراني، وفي دهاليز السياسة اللبنانية يطلق على هذه التوافقات مصطلح "تقاطع المصالح".
ما أفشل الجلسة الأخيرة والتي انعقدت الأربعاء الماضي هو عدم وجود مرشح واحد يحظى بتوافق اللاعبين الإقليميين والدوليين، إذ تصطف دول المحور إلى جانب سليمان فرنجية المقرب من دمشق، ويصطف فريق أمريكا مع جهاد أزعور الذي شغل منصب وزير المالية في حكومة السنيورة خلال الفترة 2005-2008 وفي عهده تمت سرقة 11 مليارا من خزينة الدولة، كما أنه عضو مشارك في وضع السياسات الاقتصادية الفاشلة، وتاجر الأنظمة الضريبية التي يدفع ثمنها اللبنانيون حتى اليوم.
وبحسب ما نشرته وثائق ويكيليكس فإن أزعور خلال لقاءاته بالسفراء الأمريكيين في لبنان، كان يؤدي دور المخبر لجيفري فيلتمان ولسلفه ميشيل سيسون، ولم يسلم من تقاريره حتى رجل واشنطن المالي الأول في لبنان حاكم المصرف المركزي رياض سلامة.
ففي البرقية التي تحمل رمز "07BEIRUT794_a"، بتاريخ 4 يونيو من العام 2007، كان موضوع لقاء أزعور وزميله وزير الاقتصاد اللبناني حينها سامي حداد مع فيلتمان، هو الانتخابات الرئاسية وضرورة استبعاد رياض سلامة، تحت مزاعم أن الأخير هو رجل حزب الله وسوريا في لبنان.
وبناءً على ما نقلته الوثائق عن فيلتمان فإن رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة لا يريد سلامة لرئاسة الجمهورية أيضاً، للعديد من الأسباب ومنها الأعذار المستمرة التي يقدمها سلامة لتجنب بيع الأصول التجارية غير الملائمة "طيران الشرق الأوسط، وإنترا، وما إلى ذلك".
الوثائق المسربة فضحت أن أغلب لقاءات أزعور مع السفراء الأمريكيين، كانت تتسم بطابع شديد العدائية ضد حزب الله والمقاومة، ففي البرقية رقم "06BEIRUT2719_a" للاجتماع الذي عقد بعد 8 أيام من انتهاء حرب تموز عام 2006، حرّض الأمريكيين بأنهم لن يتمكنوا من مواجهة حزب الله بشأن "تهريب الأسلحة"، كما توقع بأن "التهديدات الإسرائيلية المستمرة ضد أعضاء حزب الله يمكن أن تستخدم كذريعة أخرى للحفاظ على سلاح حزب الله".
إلى حين تقاطع المصالح الإقليمية والدولية على تسمية مرشح للرئاسة اللبنانية سيبقى فخامة الفراغ الرئاسي هو السلطة الأعلى في ظل الأزمات الاقتصادية وانهيار العملة الوطنية التي أثرت بشكل كبير على حياة المواطنين.
* نقلا عن : لا ميديا
في السبت 17 يونيو-حزيران 2023 09:14:01 م