من ذاكرة مجزرة حافلة
صفاء فايع
صفاء فايع

من يستطيع أن ينسى أدمى مجزرة عرفتها اليمن وربما الإنسانية، وأقول الإنسانية؛ لأننا لم نعهد في كل حروب التاريخ أن استهدفت الحرب حافلة مليئة بالأطفال الأبرياء.
من منا يستطيع نسيان التاسع من شهر 8 للعام 2018 ذلك اليوم المشؤوم الذي نسق فيه معلمو مدارس القرآن الكريم الصيفية بضحيان رحلة لطلابهم الصغار بلا عودة، كانت الرحلة بداية إلى روضة الشهداء (بالجعملة) ومن ثم إلى جامع الهادي بصعدة، من يستطيع نسيان ذلك اليوم الفاجع الذي ترسخ وتعمد في أذهان وذاكرة أبناء محافظة صعدة، بل في قلوب اليمنيين جميعاً بالدماء.
المعروف أن أطفال مدينة ضحيان لا يمتلكون منتزهات ولا حدائق يُروِّحون فيها عن شدة وطأة العدوان عليهم، لذلك فرحلات السكان الترويحية ورحلات المدارس الصيفية بسيطة جداً تحفها الروحانية لتكون إلى روضات الشهداء أو إلى جامع الإمام الهادي بصعدة، وليس سكان مدينة ضحيان من لا يمتلكون منتزهات أو حدائق وإنما كل قرى وعزل المحافظة المكلومة باستثناء (عاصمة المحافظة) التي تحتوي على الحدائق ذات الإمكانيات المتواضعة جدا.
عندما يعود بنا شريط الذكريات لليلة السابقة للمجزرة ففي تلك الليلة اشتغلت الوساطات من قِبل الأمهات عند آباء الأطفال لتركهم يذهبون مع معلميهم في الرحلة التي لا عودة فيها، وبدأن بعد أخذ إذن الوالد بسرد قائمة المحظورات والتحذيرات على أبنائهن خوفاً عليهم من أن يصابوا بأي أذى، ولم يكن بحسبانهن أن الخطر يحلق بهم من مكان آخر بعيداً عن كل هذه التحذيرات.
لم ينم كتاكيت المدينة تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي وبعد أن اكتمل عدد الذين سمحت لهم أسرهم بالذهاب توجهت الحافلة إلى روضة الشهداء بالجعملة تحت أجواء ومشاعر غامرة بالفرح الطفولي، غير مدركين أن في الأجواء شيطانا مفترسا يترصدهم خطوة بخطوة لغرض الانقضاض عليهم وتحت ذريعة أنهم مطلقو الصواريخ الباليستية!
ما لم يكن بحسبان أو يخطر ببال أحد أيضاً أن أولئك الأطفال أصبحوا من الأهمية لتجتمع قوى الجبروت والطغيان على قصفه وإبادته من الوجود ببشاعة ووحشية لا يمكن تبريرها بأي صفة، وستبقى عاراً على مدعي الإنسانية وحقوق الطفل إلى أن تقوم الساعة.
تمت زيارة روضة شهداء الجعملة بسلام وعادت الحافلة مستكملة رحلتها للاتجاه الآخر لتتوقف في سوق ضحيان لشراء بعض حاجيات الرحلة ومن ثم استكمالها نحو المدينة.
زكريا ذو الـ12 ربيعاً الفرحة الأولى لوالدٍ فقد أخاه في الحرب الثانية وحفيدٍ لشائبين لم يريا جثة ولا قبرا لولدهم الشهيد، زكريا الطفل كان قبل لحظات وقبل وصول الحافلة إلى السوق يبكي عند جدته والدة والدته ويشتكي لها أن أسرته لم تسمح له بالذهاب مع أصدقائه متذمراً من خوف أسرته الزائد عليه، حسب قوله، لم يكن بيد الجدة إلا أن تكفكف دموع حفيدها وترضيه ببعض النقود ليذهب لشراء صبوحٍ مميز من السوق وبعض الحلوى، حيث ستبقى هي في انتظاره ليأكلوه سوياً بدلاً من الرحلة.
استقل دراجته وذهب إلى السوق، وعند وصوله رأى ما لا يريد أن يذكِّره بحسرته فهناك جميع أصدقائه في الحافلة وهو ليس معهم، ليقف بالقرب منهم ويتبادل أطراف الحديث والضحكات معهم من نوافذ الحافلة.
والدٌ لأحد أطفال الحافلة أيضاً في مكان ليس بالبعيد جداً من زكريا كان قد وصل إلى السوق للتو ليشتري بعض متطلبات أسرته لاحظ توقف الحافلة على قارعة الطريق وعندما ذهب ببصره من بعيد إليها شاهده ولده الصغير من نافذة الحافلة يقوم بالتلويح بيده الصغيرة لوالده (وداعاً) فما كان من الوالد إلا أن رفع يده ليرد لولده نفس الحركة مع ابتسامة عريضة قد ارتسمت على وجهي كل منهما.
وفي لمح البصر في غمضة عين ينقض صاروخ الغدر لينفض والد الطفل إلى حيث نفضه وعيناه لاتزالان معلقتين بيدي ولده اللتين تلوحان له بالوداع ويصاب بالشلل عندما استعاد رؤيته، فالحافلة تحولت إلى حطام ونيران وأجساد الأطفال متناثرة إلى أشلاء تتطاير كريش العصافير في الهواء، والدماء أنهار تنزف من كل مكان.
انتُزِعت أرواح الأمهات في تلك اللحظة من بين أضلعهن عند سماع الانفجار وهن لا يعلمن ما الخبر، لكنه قلب الأم الذي أخبر قلب أم زكريا بأنه قد رافق أصدقاءه في رحلتهم.
علا الضجيج وصوت الأنين والرعب أرجاء السوق وشَلّت الصدمة من كان بالقرب، ولم يستفق من سلم من الحادث ومن كان بعيداً ولم يُصب بأي أذىً من هول الصدمة.
ما الــذي حـدث؟!
أخذ أحدهم يُصور المشهد (يا الله أطفال أسعفوهم يا رجاال -رأى طفلاً مصاباً فسأله: ما لك؟ الولد: ما بلا رجلي معصوفة.. ليش وش حصل؟ الولد: السيارة قرحت!).
مازال الطفل غير مستوعب ما حدث وجثث أصدقائه متناثرة عن يمينه ويساره (لم تنفجر الحافلة يا صغيري وليس بها أي عطل إنه طيران الظلم والجبروت أغار على السوق وجنى على الطفولة والإنسانية، أصبح الناس في حالة هستيريا وهلع من هول ما يشاهدون، وفي حالة خوف وانتظار لغارات أخرى كما هو دأب بني سعود).
بعد دقائق انطلق الناس من كل بيت ليسعفوا الجرحى ويبحثوا عن أطفالهم وأقاربهم بعد أن وصل الخبر إلى كل بيت كسرعة الصاروخ الذي أطلقه العدوان على الحافلة. فما هو حال الأمهات يا ترى؟
انهيار شديد.. وهناك منهن من تريد أن تذهب لتبحث عن ابنها ولو كان أشلاءً تشم رائحته أو مصاباً تضم جروحه، أنين سكن كل زاوية من منازل المدينة ذلك اليوم، أباءٌ يسعفون ويبحثون عن أشلاء أطفالهم.
من يستطيع أن ينسى صورة ذلك الأب الذي أخذ يهاتف زوجته وهو بحالة رعب شديد ليسألها ما لون ملابس ولده حينما غادر المنزل إلى الرحلة؟!
من المشاهد أيضاً والد ينظر إلى جثث طفليه وأخيه كل ما يملك من هذه الدنيا صرعى على الأرض فقد حملته رجلاه عندما هم بالإسعاف الى جثتي ولديه وكان أول من وصل إليهما لتكون هنالك فاجعته حيث لا أمل في إنقاذهم فقد فارقوا الحياة ثلاثتهم.
من ينسى والد يوسف آخر الذي عندما رأى جثة ولده متفحمة فوق كومة الجثث أعلى السيارة ما كان منه إلا أن ينادي بانهيار: (يا يوسف)، ثم يتكلم بعد أن هدأ من انهياره للمتصل الذي يسأل عنه وعن ابنه قائلاً: (أعطيته 500 ريال وقلت لهم سيروا وكيفوا وزوروا لنا معكم، لم يستطع النوم من الفرح)، من ينسى تهدج صوته وحرقة كبده!
خلفت الجريمة 131 شهيدا وجريحا وافتتحت أبواب المنازل للعزاء في كل حي من المدينة الطينية الصغيرة، فهناك من فقد جميع أبنائه وهناك من فقد واحدا أو اثنين، وما يحز في القلوب ويدميها أن هناك من لم يجدوا له جثة ولم يجدوه بين الجرحى وظل آباؤهم يبحثون عنهم حتى تأكدوا أنهم أصبحوا رمادا ذرته الرياح.
زكريا ويوسف وأحمد وحسين ليسوا إلا أربعة من 131 شهيداً وجريحاً يحملون أسماء أقاربهم أو إخوانهم الشهداء من أرسلتهم أيدي الطغاة والجبروت في الحروب السابقة قبلهم في رحلة إلى السماء بلا عودة.

* نقلا عن : لا ميديا


في الأحد 18 يونيو-حزيران 2023 10:01:18 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=8652